إدارة الدراسات الإسلامية
EN ع

مناهج المفسرين ج (4)

مناهج المفسرين
من كتاب
 
التفسير والمفسرون
 
 
المقرر الرابع
 
 
 
 
تأليف
الدكتور : محمد الذهبي

 

بسم الله الرحمن الرحيم
 

المقدمة
 
الحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام وأنار قلوبنا بالإيمان وأكرمنا بالقرآن، نحمده أبلغ حمد وأكمله وأزكاه وأشمله ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبع هداه الى يوم الدين وبعد:
فهذا هو الجزء الرابع من كتاب (مناهج المفسرين) المنتقى من كتاب "التفسيروالمفسرون" للدكتور محمد الذهبي تقدمه إدارة الدراسات الإسلامية لطلاب وطالبات معهد الدراسات الإسلامية الفصل الرابع.
وقد حرصت الادارة على ان يكون المنهج المقرر منهما علميا ضافيا ، يكسب دارسيه العمق العلمي والوضوح الفكري ، لذا ارتأت الادارة ان يكون مقرر هذا الفصل خاصا بموقف بعض الفرق الضالة من تفسير كتاب الله تعالى ومسلكها في تأويل القرآن الكريم وصرف مدلولات نصوص القرآن الكريم عن ظاهرها المراد منها الى معاني ومدلولات تتفق وروح عقائدهم المنحرفة . كما تناول هذا المقرر، أيضا ، المبحث الخاص بالتفسير في العصر الحديث ، وألوانه المختلفة كالتفسير العلمي ، والتفسير الالحادي ، والتفسير الأدبي والاجتماعي ، وغير ذلك من اتجاهات التفسير في العصر الحاضر وقد سلك الشيخ الذهبي في مباحثه هذه مسلك الباحث المحقق النزيه، الملتزم لموضوعية البحث النائي عن روح التعصب والتدليس والغش .
والادارة اذ تقدم هذا الكتاب لطلابها تدعو الله تعالى ان يوفق قارئيه ودارسيه الى درك الحقائق ونيل المراتب والنظر بعين الحق والانصاف واتباع منهج اهل السنة والجماعة في تفسير كتاب الله تبارك وتعالى .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد على آله واصحابه اجمعين.
ادارة الدراسات الاسلامية

الامامية الاسماعيلية "الباطنية"
وموقفهم من تفسير القرآن الكريم
· كلمة اجمالية عن الاسماعيلية وعقائدهم وأغراضهم:
قلنا: إن الإسماعيلية من الشيعة الإمامية تنتسب الى اسماعيل بن جعفر الصادق، وقلنا: انهم يلقبون بالباطنية ايضا لقولهم بباطن القرآن دون ظاهره، او لقولهم بالإمام الباطن المستور.
والحق ان هذه الطائفة لا يمكن ان تكون داخلة في عداد طوائف المسلمين. وإنما هي في الأصل جماعة من المجوس رأوا شوكة الإسلام قوية لا تقهر ، وأبصروا عزة المسلمين فتية لا تغلب ولا تكسر ، فأشتعلت بين جوانحهم نار الحقد على الإسلام والمسلمين ، ورأوا أنه لا سبيل لهم الى الغلب على المسلمين بقوة الحديد والنار، ولا طاقة لهم بالوقوف أمام جيشهم الزاخر الجرار، فسلكوا طريق الاحتيال الذي يوصلهم الى مآربهم وأهوائهم ، ليطفئوا نور الله بأفواههم ، وخفي على هؤلاء الملاحدة ان الله متم نوره ولو كره الكافرون .
***
· مؤسسو هذه الطائفة:
ظهرت بوادر هذه الفتنة، ونبتت نواة هذه الطائفة: زمن المأمون ، وبيد جماعة جمع بينهم سجن العراق، هم: عبدالله بن ميمون القداح، وكان مولى جفعر بن محمد الصادق. ومحمد بن الحسين المعروف بذيذان ، وجماعة كانوا يدعون "الجهاربجة" [1] .
اجتمع هؤلاء النفر ، فوضعوا مذهب الباطنية وأسسوا قواعده ، فلما خلصوا من السجن ظهرت دعوتهم ، ثم استفحل أمرها ، واستطار خطرها الى كثير من بلاد المسلمين . وما زالت لها بقية الى يومنا هذا بين كثير ممن يدعون الإسلام [2].
***
· احتيالهم على الوصول الى اغراضهم:
رأى المؤسسون لمبادئ الباطنية أنه لا طاقة لهم بالوقوف في وجه المسلمين صراحة وجهارا، فاحتالوا – كما قلنا – على الوصول الى مآربهم بشتى الحيل ، فاندسوا بين المسلمين باسم الحدب على الإسلام ، وتلفعوا بالتشيع والموالاة لأهل البيت، وتظاهروا بالورع الكاذب ، وجعلوا ذلك كله ستارا لما يريدون ان يبذروه بين المسلمين من بذور الفساد والاضطراب في العقيدة والسياسة.
ومن المحزن ان يدعي هؤلاء الملاحدة الانتماء الى اهل بيت النبوة، ويصلون أنسابهم بأنسابهم عن طريق آباء وأئمة مستورين ، فيلقى هذا الادعاء رواجا وقبولا من اناس ضعفاء اغمار ، غرهم التباكي على آل البيت والتحزن عليهم، فتحركت احقاد دفينة ، وثارت فتن دامية بين المسلمين كان لها أثرها وخطرها.
أسس هؤلاء الباطنية الجمعيات السرية لنشر مذهبهم وهدم مذهب المسلمين ، ورسموا لهذا المذهب خطة دبروها بنوع من المكر والخديعة، فجعلوا هدفهم الأول: الاحتيال على الطغام بتأويل الشرائع الى ما يعود الى قواعدهم من الإباحة والإلحاد، وتدرجوا في وصولهم الى غرضهم هذا بجعلهم الدعوة على مراتب وهي ما يأتي:
· مراتب الدعوة عند الباطنية:
أولا – الذوق: وهو تفرس حال المدعو ، هل هو قابل للدعوة او لا؟ ولذلك منعوا من إلقاء البذر في السبخة . أي دعوة من ليس قابلا لها، ومنعوا التكلم في بيت فيه سراج.. أي في موضع فيه فقيه او متعلم.
ثانيا – التأنيس: باستمالة كل احد من المدعوين بما يميل اليه بهواه وطبعه، من زهد ، وخلاعة ، وغيرهما ، فإن كان يميل الى زهد زينه في عينه وقبح نقيضه، وان كان يميل الى الخلاعة زينها وقبح نقيضها ، ومن رآه الداعي مائلا الى ابي بكر وعمر مدحهما عنده وقال: لهما حظ في تأويل الشريعة، ولهذا استصحب النبي ابا بكر الى الغار، ثم الى المدينة ، وافضى اليه في الغار تأويل الشريعة... وهكذا حتى يحصل له الأنس به.
ثالثا – التشكيك: في اصول الدين وأركان الشريعة: كأن يقول للمدعو.
 ما معنى الحروف المقطعة في أوائل السور؟ ولم تقضي الحائض الصوم دون الصلاة ؟ ولم يجب الغسل من المني دون البول؟ ولم اختلفت الصلوات في عدد ركعاتها فكان بعضها ركعتين ، وبعضها ثلاثا ، وبعضها اربعا ؟...
وحيث يشككون بمثل هذا فلا يجيبون ليتعلق قلب من يشككونه بالرجوع اليهم والأخذ عنهم.
رابعا – الرابط: وهو أمران : احدهما: اخذ الميثاق على الشخص بأن لا يفشي لهم سرا، ويستدلون على ذلك بقوله تعالى:}وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً{[3] . .. وقوله : } وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً { [4].. وثانيهما: حوالته على الإمام في حل ما أشكل عليه من الأمور التي القيت اليه، فإنها لا تعلم الا من قبل الإمام .
خامسا – التدليس: وهو دعوى موافقة أكابر الدين والدنيا ليزداد الإقبال على مذهبهم.
سادسا – التأسيس: وهو تمهيد مقدمات يراعون فيها حال المدعو لتقع تعاليمهم منه موقع القبول من نفسه .
سابعا – الخلع: وهو الطمأنينة الى اسقاط الأعمال البدنية.
ثامنا – السلخ: وهو سلخ المدعو من العقائد الاسلامية ، ثم بعد ذلك يأخذون في تأويل الشريعة على ما تشاء اهواؤهم [5] .
فأنت ترى ان الباطنية توسلوا بكل هذه الحيل الى تشكيك المسلمين في عقائدهم ، وكأنهم رأوا ان القرآن ما دام موجودا بين المسلمين ومحفوظا عندهم يرجعون اليه في امور الدين ، ويهتدون بهديه كلما نزلت بهم نازلة، فليس من السهل صرف الناس عنه الا بواسطة تأويله، وصرف الفاظه وآياته عن مدلولاتها الظاهرة، فأخذوا يجدون في تأويل نصوص القرآن كما يحبون . وعلى أي وجه يرونه هدما لتعاليم الإسلام ، الذي اصبح قذي في اعينهم . وشجي في حلوقهم!!..
وحرصا منهم على ان تكون دعواهم في تأويل القرآن مقبولة لدى من يستخفونه .. قالوا: "ان الأئمة هم الذين اودعهم الله سره المكنون ، ودينه المخزون ، وكشف لهم بواطن هذه الظواهر ، واسرار هذه الأمثلة ، وان الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع الى القرآن وأهل البيت، ولذلك قال عليه السلام – لما قيل : ومن اين يعرف الحق بعدك ؟ - "الم أترك فيكم القرآن وعترتي؟".. واراد به أعقابه ، فهم الذين يطلعون على معاني القرآن" [6] .
ولكن احتيال الباطنية بتأويل القرآن على هدم الشريعة لم يلق رواجا عند عقلاء المسلمين ، ولم يجد غباوة في عقول علمائهم الذين نصبوا انفسهم لحماية القرآن من أباطيل المضللين ... وكيف يمكن ان يجد رواجا عند هؤلاء أو غباوة من أولئك وقد علموا وتيقنوا بأن الألفاظ اذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه ينقل عن صاحب الشريعة ، ومن غير ضرورة تدعو اليه من دليل العقل ، اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ ، وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإن ما يسبق منه الى الفهم لا يوثق به ، والباطن لا ضبط له ، بل تتعارض فيه الخواطر ، ويمكن تنزيله على وجوه شتى.
****
· انتاج الباطنية في تفسير القرآن الكريم:
ومع ان هؤلاء الباطنية قد اتخذوا من تأويل القرآن بابا للوصول الى اغراضهم ، فإنا لم نقف لهم على كتب مستقلة في تفسير كتاب الله تعالى ، ولم نسمع ان واحدا منهم كتب تفسيراً جامعاً للقرآن كله، سورة سورة ، وآية آية ، ولعمل السر في ذلك : انهم لم يستطيعوا ان يتمشوا بعقائدهم مع القرآن آية آية ، ولو انهم حاولوا ذلك لاصطدموا بعقبات وصعاب لا يستطيعون تذليلها ، ولا يقدرون على التخلص منها.
وكل الذي وجدناه لهم في تفسير القرآن أو تأويله على الأصح : انما هو نصوص متفرقة في بطون الكتب ، تعطينا الى حد ما صورة واضحة ، وفكرة جلية عن موقف هؤلاء القوم من القرآن الكريم ، ومبلغ تهجمهم على القول فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وأرى ان أقسم موقف الباطنية من القرآن الكريم الى قسمين اثنين:
الأول: موقف الباطنية المتقدمين من القرآن الكريم.
الثاني: موقف الباطنية المتأخرين منه أيضا.
ونريد بالمتقدمين : الذين اسسوا مذهب الباطنية ومن قاربهم في الزمن ، وبالمتأخرين : البابية والبهائية . وسنوضح عند الكلام عن البابية والبهائية السبب الذي من أجله عددناهم من قبيل الباطنية.
****
موقف متقدمي الباطنية من تفسير القرآن الكريم
علمت ان الغرض الاول الذي تقوم عليه دعوة الباطنية وتتركز فيه : هو العمل على هدم الشرائع عموما ، وشريعة الإسلام على الخصوص ؟ فكان لزاما عليهم وقد قاموا يحاربون الاسلام – ان يعملوا معاول الهدم في ركن الإسلام المكين ، وهو القرآن الكريم ، وقد عجموا معاولهم كلها فلم يجدوا معولا أصلب ولا أقوى على تنفيذ غرضهم من معول التأويل والميل بالآيات القرآنية الى غير ما أراد الله.
كتب عبيد الله بن الحسن القيرواني الى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني رسالة طويلة جاء فيها "... وإني اوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل وتدعوهم إلي إبطال الشرائع ، وإلي إبطال المعاد والنشور من القبور وإبطال الملائكة في السماء وإبطال الجن في الأرض ، وأوصيك أن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير ، فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم " 1 هـ [7] .
رأي هذا الزعيم الباطني أن التشكيك في القرآن خير معوان لهم على تركيز عقائدهم ، ورأي رأيه أهل الباطن جميعاً فقالوا : " للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلي الظاهر كنسبة اللب إلي القشر ، والمتمسك بظاهره معذب بالشقشقة في الكتاب ، وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره ، وتمسكوا في ذلك بقوله تعالى في الآية (13) من سورة الحديد
 } فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ{ [8] .
فانظر إليهم كيف وضعوا هذه القاعدة لفهم نصوص القرآن الكريم ، ثم اعجب ما شاء الله لك إن تعجب من استدلالهم بهذه الآية الكريمة على قاعدتهم التي قعدوها ؟ ولست أدري ما صلة هذه الآية بتلك القاعدة والآية واردة في شأن من شئون الآخرة ينساق إلى فهمه كل من يمر بالآية بدون كلفة ولا عناء .
***
من تأويلات الباطنية القدامي :
على هذه القاعدة السابقة جرى القوم في شرحهم لكتاب الله تعالى ، فكان من تأويلاتهم ما يأتي :
"الوضوء" عبارة عن موالاة الإمام ، و "التيمم" هو الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الذي هو الحجة ، و"الصلاة " عبارة عن الناطق الذي هو الرسول بدليل قوله تعالى في الآية (45) من سورة العنكبوت } إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ{ .... و " الغسل " تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرارهم من غير قصد ، وإفشاء السر عندهم على هذا النحو هو معنى "الاحتلام". و "الزكاة " عبارة عن تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين . و"الكعبة" النبي . و"الباب" علي. و"الصفا" هو النبي. و"المروة" علي. و"الميقات" الإيناس. و"التلبية" اجابة الدعوة . و"الطواف بالبيت سبعا " موالاة الأئمة السبعة. و"الجنة" راحة الأبدان من التكاليف. و"النار" مشقتها بمزاولة التكاليف [9] .
وتأولوا أنهار الجنة فقالوا: "انهار من لبن" أي معادن العلم.... اللبن العلم الباطن ، يرتفع به أهلها ، ويتغذون به تغذيا تدوم به حياتهم اللطيفة ، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم ، كما ان حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدي الأم . "وأنهار من خمر" هو العلم الظاهر. } وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى { هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة [10] .
كذلك تجد الباطنية يرفضون المعجزات ، ولا يعترفون بها للرسل ، وينكرون نزول ملائكة من السماء بالوحي من الله ، بل وزادوا على ذلك فأنكروا أن يكون في السماء ملك وفي الأرض شيطان ، وانكروا آدم والدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ولكنهم وجدوا انفسهم أمام آيات من القرآن تكذب دعواهم هذه ، فتخلصوا منها بمبدئهم الذي ساروا عليه في تفسيرهم وهو انكار الظاهر والأخذ بالباطن ، وأولوا هذه الآيات بم يتفق ومذهبهم ، فتأولوا "الملائكة" على دعاتهم الذين يدعون الى بدعتهم . وتأولوا "الشياطين" على مخالفيهم . وتأولوا كل ما جاء في القرآن من مجعزات الأنبياء عليهم السلام ، فقالوا: "الطوفان" معناه طوفان العلم... أغرق به المتمسكون بالسنة . و"السفينة " حرزه الذي تحصن به من استجاب لدعوته . و"نار ابراهيم" عبارة عنه غضب نمرود عليه لا النار الحقيقية .
و"ذبح اسحاق" معناه أخذ العهد عليه. و"عصا موسى"حجته التي تلقفت ما كانوا يأفكون من الشبه لا الخشب "وانفلاق البحر" افتراق علم موسى فيهم عن اقسام. و"البحر" هو العلم و"الغمام الذي اظلهم" معناه الإمام الذي نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم . و"الجراد والقمل والضفادع" هي سؤالات موسى والتزاماته التي سلطت عليهم .
"والمن والسلوى" علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى . و"تسبيح الجبال" معناه تسبيح رجال شداد في الدين راسخين في اليقين. و"الجن الذين ملكهم سليمان بن داوود" باطنية ذلك الزمان . و"الشياطين" هم الظاهرية الذين كلفوا بالأعمال الشاقة . و"عيسى" له أب من حيث الظاهر، وانما أراد بالأب المنفي: الإمام ، إذ لم يكن له امام ، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة ، وزعموا – لعنهم الله – ان اباه يوسف النجار. و"كلامه في المهد" اطلاعه في مهد القالب قبل التخلص منه على ما يطلع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب. و"إحياء الموتى من عيسى" معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطن . "إبراؤه الأعمى" عن عمى الضلالة . و"الأبرص" عن برص الكفر ببصيرة الحق المبين. و"ابليس وآدم" عبارة عن أبي بكر وعلى ، إذ أمر أبو بكر بالسجود لعلي والطاعة له فأبى واستكبر . و"الدجال" أبو بكر ، وكان أعورا، اذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن و "يأجوج ومأجوج" هم أهل الظاهر" [11] .
بل بالغوا فقالوا: "إن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة ، فساسوا العامة بالنواميس والحيل ، طلبا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة" [12] .
هذا .. وان مما زعمته الباطنية : أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها وتأولوا في ذلك قوله تعالى في الآية (99) من سورة الحجر:
} وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ { .. وحملوا اليقين على معرفة التأويل .
كذلك استحل الباطنية نكاح البنات والأخوات وجميع المحارم ، بحجة ان الأخ أحق بأخته ، والأب أولى بابنته... وهكذا : ولست أدري على أي وجه تأولوا آية النساء التي حرمت ذلك ، ومنعته منعا باتا !!.
ويقول القيرواني في رسالته التي أرسلها إلى سليمان بن الحسن: "... وينبغي أن تحيط علماً بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في أقوالهم ، كعيسى ابن مريم ، قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى ، ثم رفعها بتحريم الأحد بدلا من السبت ، وأباح العمل في السبت ، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها .. وبذلك قتلته اليهود لما اختلفت كلمته ، ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال : } الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي { [13]} لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ{.. [14]} أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى { ..[15]  لأنه كان صاحب الزمان في وقته". قال لقومه : . لما لم يحضره جواب المسألة ، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعوذة ، ولما لم يجد المحق في زمانه عنده برهاناً قال له:
ثم قال في آخر هذه الرسالة : "... وما العجب من شئ كالعجب من رجل يدعي العقل ، ثم يكون له اخت او بنت حسناء وليس له زوجة في حسنها ، فيحرمها على نفسه وينكحها من اجنبي ، ولو عقل الجاهل لعلم أنه احق بأخته ، وبنته من الأجنبي ، ما وجه ذك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات وخوفهم بغائب لا يعقل ، وهو الإله الذي يزعمونه ، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبداً من البعث من القبور ، والحساب ، والجنة ، والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلا وجعلهم له في حياته ، ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله:
}  لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى { .. [16]  فكان أمره معهم نقداً وأمرهم معه نسيئة ، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون ، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها ؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج".
ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة : "...وانت واخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس ، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع اصحاب النواميس ، فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم" [17] . أ هـ
ومن جملة تأويلاتهم الباطلة التي يتوصلون بها الى هواهم النفسي ، ومأربهم الشخصي ، انهم بعد ان يلقوا على المدعو ما يشككونه به، وتتطلع الى معرفته من جهتهم نفسه ، يقولون له : لا نظهره الا بتقديم خير عليه ، فيطلبون مائة وتسعة عشر درهما من السبيكة الخالصة . ويقولون : هذا تأويل قوله تعالى: } وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً { .. فالحاء والسين والنون والألف اذا جمع عددها بحساب الجمل يكون مبلغه مائة وتسعة عشر".[18]
ومن ذا الذي قال ان القرآن يخضع في تفسيره وفهم معانيه الى حساب الجمل؟ .. اللهم ان هذا لا يصدر إلا عن مخرف أو زنديق يريد أن يضل الناس ويحتال على سلب أموالهم بدعوى يدعيها على كتاب الله !!..
كذلك نجد الباطنية يحرصون على نفي وجود الإله الحق ، والنبي المرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، ليتوصلوا بذلك الى رفع التكاليف ، فنراهم يقولون للمتبدئ: "ان الله خلق الناس واختار منهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فيستحسن المبتدئ هذا الكلام ، ثم يقول له: أتدري من محمد ؟ فيقول نعم... محمد رسول الله ، خرج من مكة ، وادعى النبوة ، وأظهر الرسالة ، وعرض المعجزة . فيقول له : ليس هذا الذي تقول إلا كقول هؤلاء الحمير – يعنون به المؤمنين من أهل الإسلام – إنما محمد أنت ، فيستعيذ السامع ويقول: لست انا محمداً ، فيقول له : الله تعالى وصفه في هذا القرآن فقال: }َقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ { .. [19] وهؤلاء الحمير يقولون : من مكة ... فيقول له الغر الغمر : على أي معنى تقول انا محمد ؟ فيقول : خلقك وصورك خلقة محمد ، فالرأس بمنزلة الميم ، واليدان بمنزلة الحاء ، والسرة بمنزلة الميم ، والرجلان بمنزلة الدال ، وكذلك انت على ايضا، عينك هي الين ، والأنف هي اللام ، والفم الياء " [20] .
وبهذا يوهمه انه هو محمد الذي جاء ذكره في القرآن ، أما ما يدعي من وجود رسول اسمه محمد ، فهذا ظاهره غير مراد .
ولأجل ان يوهمه أيضا بأنه لا إله موجود على الحقيقة ، وما جاء في القرآن من ذلك فظواهر غير مرادة ، تجده يقول للمبتدئ : إن المراد بإثبات الذات يرجع الى نفسك ، ويؤولون عليه قوله تعالى : " فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ  " .. [21] ويقولون : الرب هو الروح والبيت هو البدن.
ولقد وصل الغلو ببعض الباطنية الى ادعاء ألوهية محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق ، وأنه هو الذي كلم موسى بقوله :} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ {..[22]} إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ {.. ثم قال : فقلت : سخنت عينك : تدعوني الى الكفر برب قديم خالق للعالم ، ثم تدعوني مع ذلك الى الإقرار بربوبية إنسان مخلوق ، وتزعم أنه كان قبل ولادته إلهاً مرسلا لموسى؟ فإن كان موسى عندك كاذبا ، فالذي زعمت أنه أرسله أكذب" فقال : إنك لا تفلح أبدا ، وندم على إفشاء أسراره إلىَّ وتبت من بدعتهم " . [23] وفي هذا يروي لنا البغدادي صاحب الفرق بين الفرق قصة رجل دخل في دعوة الباطنية ، ثم وفقه الله لتركها والرجوع لرشده.. يحكى هذا الرجل قصته للبغدادي فيقول: "انهم لما وثقوا بإيمانه قالوا له : إن المسمين بالأنبياء كنوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكل من ادعى النبوة : كانوا أصحاب نواميس ومخاريق، احبوا الزعامة على العامة ، فخدعوهم بنيرنجات ، واستعبدوهم بشرائعهم – قال الحاكي للبغدادي : ثم ناقض الذي كشف لي هذا السر بأن قال : ينبغي ان تعلم ان محمد ابن اسماعيل بن جعفر هو الذي نادى موسى بن عمران من الشجرة فقال له
موقف متأخري الباطنية
من تفسير القرآن الكريم
** تمهيد: في بيان انتشار الباطنية في البلاد الآن وتعدد ألقابهم:
قلنا إن الباطنية يعرفون بأسماء عدة ، وقلنا إنه لا تزال منهم بقية الى يومنا هذا في كثير من بلاد المسلمين ، والآن أزيدك على ما تقدم أن الباطنية يوجدون بالهند ، ويعرفون بالبهرة أوألاسماعيلية ، وزعيمهم أغا خان الزعيم الاسماعيلي المعروف . ويجودون في بلاد الأكراد ويعرفون " بالعلوية " حيث يقولون : على هو الله . ويوجدون في تركيا ويعرفون "بالبكداشية" وفي مصر جماعة من البكداشية من أصل ألباني يقيمون في الجبل المعروف بالمغاوري . [24]  ويوجدون في بلاد العجم ويعرفون "بالبابية" . ويوجدون في فلسطين ويعرفون "بالبهائية" ومنهم جماعات في بلاد متفرقة [25] ، وتوجد بالهند فرقة اخرى من الباطنية هي القاديانية ، وهي احدث فرقهم عهداً ، وأقربها ظهوراً .
هذه الفرق التي تنتشر بين المسلمين إلى اليوم لابد أن يكون لكل منها رأي في التأويل الباطني للقرآن الكريم ، يتفق مع مبدئها ومشربها .
ولابد أن يكون لعلمائها تأويلات قرآنية يميلون بها نحو مذاهبهم وعقائدهم . غير أننا لم نقف على شئ من ذلك ، اللهم إلا شيئاً يسيراً للبابية والبهائية .
لهذا قصرنا كلامنا على هذه الطائفة [26] وموقفها من كتاب الله تعالى ، لأن ما وصلنا عنها – وإن قل – فهو يعطينا فكرة ولو إلى حد ما عن موقفها من تفسير القرآن الكريم.
واعتمادنا في كل ما نكتب : على بعض الكتب التي وصلتنا عنهم ، وعلى ما نشر في المجلات العلمية من البحوث التي تدور حولهم ، فنقول وبالله التوفيق :
البابية والبهائية
==================
· كلمة اجمالية عن نشأة البابية والبهائية:
البابية : نسبة إلى الباب ، وهو لقب ميرزا على محمد ، الذي ابتدع هذه النحلة ، وإليه تنسب هذه الطائفة ، باعتباره المؤسس الأول لها .
والبهائية: نسبة الى بهاء الله ، وهو لقب ميرزا حسين علي ، الزعيم الثاني للبابية ، وإليه تنسب هذه الطائفة ، باعتباره المؤسس الثاني لها .
وأصل نشأة هذه الطائفة : أن ميرزا على محمد ، الملقب بالباب ، والمولود في سنة 1235 هجرية ، توفى عنه والده ميرزا محمد رضا قبل فطامه ، فربى في حجر خاله ميرزا سيد على ، نشأ معه في مدينة شيراز بجنوب إيران ، واشتغل معه بالتجارة ، ولما بلغ سنه الخامسة والعشرين ادعى أنه الباب – والباب عن الشيعة معناه نائب المهدي المنتظر – وكان ادعاؤه هذا في سنة 1260هجرية ، وما لبث أن وصلت هذه الدعوة إلى طائفة من الجاهلين فصدقوا بها ، وتتابعوا عليها ، وكان عدد من صدقه في أول الأمر ثمانية عشر رجلا ، فسماهم بكلمة (حي) لأن عدد حرفيها بحساب الجمل ثمانية عشر، ثم أمر أتباعه هؤلاء بالانتشار في إيران وبلاد العراق ، يبشرون به وبدعوته ، وأوصاهم بكتمان اسمه حتى يظهره هو بنفسه . ولما حج وفرغ من أعمال الحج أعلن دعوته في المجمع الكبير فاشتهر اسمه ، وذاعت دعوته ، فثارت عليه طوائف المسلمين ، وقاموا في سبيل دعوته يحاربونها بكل الوسائل.
وقد عقد بعض الولاة بين العلماء وبين الباب مناظرات أظهرت ما في دعوته من غواية وضلال ، فكفره بعض العلماء ، ورماه بعض آخر منهم بالجنون ، فاعتقله الوالي في سجن شيراز ، ثم في سجن أصفهان ، ثم في طهران ، ثم في أذربيجان ، وفي عهد السلطان ناصر الدين شاه اشتدت الخصومة بين البابيين ومخالفيهم ، وقامت بينهم حرب طاحنة كان من نتائجها أن أمر الصدر الأعظم بقتل الباب ، فعلق في ميدان ميدنة تبريز ، وقتل رميا بالرصاص ، وذلك سنة 1265هجرية .
وبعد قتله اختلف أتباعه على أنفسهم في شأن من ينوب عنه، وظهرت من بعض أتباعه دعاوي مختلفة ، من قبيل النبوة ، والوصاية ، والولاية. وأمثالها . وظلوا على هذا الأمر إلى أن حول بعضهم اغتيال ناصر الدين شاه سنة 1268 هجرية انتقاما لزعيمهم الباب ، ولما خاب سعيهم وفشلوا في هذه المؤامرة ، أخذت الحكومة تضطهد زعماء البابيين ، وتسوقهم الى التحقيق ، فقتل من قتل ، ونفى
من نفي ، وكان من بين زعمائهم في هذ الوقت – وقت الاضطهاد – ميرزا حسين على الملقب فيما بعد : "بهاء الله".
* * *
· بهاء الله:
ولد بهاء الله سنة 1233 هجرية ، وكان ابنه ميرزا عباس من كبار وزراء الدولة في وقته ، فلما قام الباب واشتهر أمره صدقه بهاء الله ، فاشتد به أزر البابيين وكثرت جماعتهم ، ولما حدثت حادثة سنة 1268 هجرية ، وهي محاولة اغتيال ناصر الدين شاه ، قبض على بهاء الله وسجن نحو أربعة أشهر، ثم أفرج عنه وأبعد إلى العراق ، فدخل بغداد سنة 1269 هجرية ، ومكث بها اثنى عشر عاما ، يدعو الناس إلى نفسه ، ويزعم أنه هو الموعود به الذي أخبر عنه الباب ، وكان يشير إليه بلفظ "من يظهره الله" وهناك تجمع حوله بعض أتباعه الذين لحقوا به من البابيين ، وتسموا حينئذ بالبهائيين ، ووقعت بينهم وبين شيعة العراق فتنة كادت تفضي إلى قيام حرب أهلية بين الفريقين ، فقررت الحكومة العثمانية في ذلك الوقت إرسال بهاء الله إلى الآستانة ، فأرسل اليها ومكث بها نحوا من أربعة أشهر، ثم نفى الى أدرنة [27] ومكث بها نحوا من خمس سنوات ، ثم نفى منها إلى عكا من بلاد الشام سنة 1285 هجرية ، وبقى بها إلى أن مات سنة 1309 هجرية ، فتولى رئاسة الطائفة ابنه عباس المولود سنة 1844 م والمتوفي سنة 1921م والملقب : "عبدالبهاء" فأخذ يدعو إلى هذا المذهب ، ويتصرف فيه كيف يشاء ، فلم يرض هذا الصنيع أتباع البهاء فانشقوا عليه ، والتف فريق منهم حول أخيه الميرزا علي ، وألفوا كتبا في الطعن على عبد البهاء يتهمونه فيها بالمروق من دين البهاء [28] .
******
· الصلة بين عقائد البابية وعقائد الباطنية القدامى:
بالرغم من أن هذه الفرقة لم تظهر إلا قريبا ، فإنا نجدها ليست بالفرقة المحدثة في عقائدها وتعاليمها ، بل هي في الحقيقة ونفس الأمر وليدة من ولائد الباطنية ، تغذت من ديانات قديمة ، وآراء فلسفية ، ونزعات سياسية ، ثم درجت تحذو حذو الباطنية الأول ، وتترسم خطاهم في كل شئ ، وتهذي في كتاب الله ، فتأولته بمثل ما تأولوه : لتصرف عنه قلوبا تعلقت به ونفوسا إطمأنت إليه .
والذي يقرأ تاريخ الباطنية الأول ، ويطلع على ما في كتبهم من خرافات وأباطيل ، ثم يقرأ تاريخ البابية والبهائية ، ويطلع على ما في كتبهم من خرافات وأباطيل ، لا يسعه الا أن يحكم بأن روح الباطنية حلت في جسم ميرزا على ، وميرزا حسين على ، فخرجت للناس أخيراً باسم البابية والبهائية .
تقوم دعوة قدماء الباطنية على إبطال الشريعة الاسلامية ، وينفذون إلى عقول العامة بإظهارهم الحب والتشيع ، بل والانتساب الى آل البيت ، ثم يصلون الى أهوائهم ومآربهم بصرفهم القرآن إلى معان باطنية لا يقبلها العقل ، ولا تمت إلى الدين بسبب ، وعلى هذا الأساس قامت دعوة البابية والبهائية ، وبمثل هذه الوسيلة وصلوا الى أغراضهم وأهوائهم ، وإليك ما يوضح ذلك:
أولا : في الباطنية من يدعي النبوة لنفسه أو يدعيها لغيره ، وميرزا على الملقب بالباب يدعي أنه رسول للناس من قبل الله تعالى ، وله كتاب اسمه "البيان" ادعى أنه منزل عليه من عند الله تعالى . وقد جاء في رسالة بعث بها الباب إلى العلامة الآلوسي صاحب التفسير المعروف ، يدعوه فيها الى الإيمان به: "إنني أنا عبدالله ، قد بعثني بالهدى من عنده" وسمى في هذه الرسالة مذهبه دين الله فقال: "ومن لم يدخل في دين الله ، مثله كمثل الذين لم يدخلوا في الإسلام" [29] .
ولا نعلم ماذا اجاب به الآلوسي على هذه الرسالة ، وإن كنا نعلم رأيه في هذه الطائفة عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (48) من سورة الأحزاب
 } مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ {...
 وذلك حيث يقول : "وقد ظهر في هذا العصر عصابة من غلاة الشيعة لقبوا انفسهم بالبابية ، لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول ، وقد كاد يتمكن عرقهم من العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق ، حيث خذلهم – نصره الله – وشتت شملهم ، وغضب عليهم – رضى الله تعالى عنه – وأفسد عملهم . فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيراً ، ودفع عنه في الدارين ضيما وضيراً [30] ".
وكذلك ادعى زعيمهم الثاني الملقب ببهاء الله : أنه رسول من عند الله ، جاء لتأسيس الإسلام على الأرض . وبين أيدينا كتاب بهاء الله ، ويطلق عليه اسم "الكتاب" قرأنا فيه فوجدناه يقول :
" لعمر الله إن البهاء ما نطق عن الهوى ، قد أنطقه الذي أنطق الأشياء بذكره وثنائه ، لا إله إلا هو الفرد الواحد المقتدر المختار" [31] .
" لعمري ما أظهرت نفسي ، بل الله أظهرني كيف أراد، إني كنت كأحد من العباد ، وراقداً على المهاد ، مرت على نسائم السبحان ، وعلمني علم ما كان ، ليس هذا من عندي بل من لدن عزيز عليم . وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ، بذلك ورد على ما ذرفت به دموع العارفين . ما قرأت ما عند الناس من العلم ، وما دخلت المدارس ، فاسأل المدينة التي كنت فيها لتوقن بأني لست من الكاذبين" [32] .
"قل قد أتى المختار ، في ظل الأنوار ، ليحيي الأكوان ، من نفحات اسمه الرحن ، ويتحد العالم ، ويجتمعوا على هذه المائدة التي نزلت من السماء" [33] .

 أن شريعته ناسخة للشريعة الإسلامية ، فابتدع لأتباعه أحكاما خالف بها ما جاءت به الشريعة الاسلامية ، فجعل الصوم تسعة عشر يوماً من شروق الشمس الى غروبها ، وعين لهذه الأيام وقت الاعتدال الربيعي . بحيث يكون عيد الفطر عندهم يوم "النيروز" على الدوام ، وفي كتاب البيان: ".... أيام معدودات . وقد جعلنا النيروز عيداً  لكم بعد إكمالها". [34]
كذلك يرى بهاء الله أن شريعته ناسخة للشريعة الاسلامية ، ويقرر ذلك في كتابه فيقول: " لو كان القديم هو المختار عندكم ، لما تركتم ما شرع في الإنجيل ، بينوا يا قوم ... لعمري ليس لكم اليوم من محيص ، إن كان هذا جرمي فقد سبقني في ذلك محمد رسول الله ، ومن قبله الروح ، ومن قبله الكليم. وإن كان ذنبي إعلاء كلمة الله وإظهار أمره ، فأنا أول المذنبين. لا أبدل هذا الدين بملكوت السموات والأرضين". [35]
وقرر البهاء أن الدين قسمان . عملي وروحاني ، فالقسم الروحاني وهو مظاهر الألوهية والنبوة ، غير قابل للتبديل . والقسم العملي ، وهو المتعلق بالصور والأشكال الخارجية ، قابل للتغيير. وعلى هذا المبدأ جعل لأتباعه الصلاة تسع ركعات في اليوم والليلة ، وجعل قبلتهم في الصلاة أين يكون هو !!. وفي هذا يقول : " إذا أردتم الصلاة فولوا وجوهكم شطري الأقدس" [36] وسوى بين الرجل والمرأة في الحقوق الشرعية والسياسية. وقرر عقوبات مالية للزنا والسرقة وغيرهما ، ومنع التسري ، وحرم الزواج بأكثر من واحدة ، وقيد لهم الطلاق وصعبه. وحجته في هذا كله : أن جميع الأديان أضحت لا تصلح لإصلاح العالم ، فلابد من دين جديد يوافق هذا العصر. . عصر التقدم المادي العظيم . وهذا الدين الذي جاء به هو الذي يصلح في نظره لمسايرة هذا العصر دون غيره . [37]
ثانيا: منع الحسن بن الصباح وغيره من زعماء الباطنية ، العوام من دراسة العلوم ، والخواص من النظر في الكتب المتقدمة . وفعل الباب مثل ذلك فحرم في كتابه "البيان" التعليم وقراءة كتب غير كتبه ، فكان من وراء ذلك أن حرق أتباعه القرآن الكريم ، وما في أيديهم من كتب العلم ... ولكن بهاء الله أدرك أن هذا التحجير قد يصرف بعض الناس عن دعوته، فنسخ ذلك التحجير ، وذلك حيث يقول في كتابه المسمى بـ "الأقدس" "قد عفا الله عنكم ما نزل في البيان من محو الكتب ، وآذنا بكم بأن تقرأوا من العلوم ما ينفعكم " [38] .
ثالثا: من الباطنية من يدعي حلول الإله في بعض الأشخاص ، كالقرامطة الذين يدعون حلول الإله في إمامهم محمد بن إسماعيل . ونجد مثل هذه الدعوى متجلية في بعض مقالات البابية ، فهذا بهاء الله يقول في الكتاب " لنا مع الله حالات نحن فيها هو، وهو نحن ، ونحن نحن " [39]  وهذا عباس الملقب بعبد البهاء يقول: "وقد أخبرنا بهاء الله بأن مجئ رب الجنود والأب الأزلي ، ومخلص العالم الذي لابد منه في آخر الزمان ، كما أنذر جميع الأنبياء ، عبارة عن تجليه في الهيكل البشري ، كما تجلى في هيكل عيسى الناصري ، إلا أن تجليه في هذه المرة أتم وأكمل وأبهى ، فعيسى وغيره من الأنبياء هيأوا الأفئدة والقلوب لاستعداد هذا التجلي الأعظم". [40]  يريد بهذا : أن الله تجلى في بأعظم من تجليه في أجسام الأنبياء على ما يزعم . وهذا أبو الفضل الإيراني أحد دعاتهم يقول : "... فكل ما توصف به ذات الله ويضاف ويسند الى الله من العزة ، والعظمة ، والقدرة والعلم ، والحكمة ، والإرادة ، والمشيئة ، وغيرها من الأوصاف ، إنما يرجع بالحقيقة إلى مظاهر أمره ، ومطالع نوره ، ومهابط وحيه ، ومواقع ظهوره " [41]  ومثل هذا كثير في كلام زعمائهم ودعاتهم .
رابعا: يدعي الباطنية رجوع الإمام المعصوم بعد استناره ، ويحصرون مدارك الحق في أقواله . والبهائية يقولون هذا القول ويثبتونه في كتبهم .
يقول بهاء الله في الكتاب " يسند القائم ظهره الى الحرم ، ويمد يده المباركة ، فترى بيضاء من غير سوء ، ويقول : هذه يد الله ، ويمين الله ، وعين الله ، وبأمر الله . أنا الذي لا يقع عليه اسم ولا صفة ، ظاهري إمامة ، وباطني غيب لا يدرك". [42]
وقد عرفت أن البابية والبهائية يعبرون عن الإمام المعصوم بمن سيظهره الله ، ويزعمون أنه هو الذي يعرف تأويل ما جاءت به الرسل عليهم السلام .
خامسا : من مبادئ قدماء الباطنية التفرس . وعلى هذا المبدأ منعوا التكلم بآرائهم في بيت فيه سراج أي فقيه أو متعلم . والبهائية يسيرون على هذا المبدأ وإليك ما يثبت ذلك :
أرسل إلى أبي الفضائل الإيراني بعض إخوانه كتابا يرجوه فيه أن يرد على مقال كتبه جرجس صال الإنجليزي بإمضاء هاشم الشامي ، والمقال يتضمن توجيه الاعتراضات على فصاحة القرآن الكريم ، فاعتذر أبو الفضائل عن ذلك في رسالة أرسل بها إلى صاحبه يقول فيها :
".. إن هناك موانع جمة ، أعظمها وأشدها مانع كبير لا يستسهل العاقل تذليل صعوباته ، ولا يتسنم النبيه متن صهواته ، حيث إن قلوب الذين اكتفوا من الإسلام باسمه ، ومن القرآن برسمه ، تغذت في مدة مديدة ، وأزمنة غير وجيزة بقشور المطالب ، وألفت سفاسف المسائل حتى بعدت عن لباب الكتاب ، وجهلت حقيقة معاني الخطاب ، فلو كشفنا عن حقائق الإشارات ، وأظهرنا المعاني المقصودة من ظواهر العبارات ، فطلعت صور الحقائق المقصورة في قصر الآيات ، وتهللت وجوه المعاني المستورة في خدور الاستعارات ، لندفع تلك الردود والاعتراضات ، وتظهر بطلان تلك الإيرادات والانتقادات ، تثور أولا أحقاد جهلائنا ، ويرتفع نعيب سفهائنا ، وينادون بالويل والثبور، ويثيرون الأحقاد الكامنة في الصدور..." ثم يقول لصاحبه في آخر الرسالة " ... لتعلم حق العلم أني ما نسيت ولم أكره صفة من صفاتك ، ولا خلة من خلالك ، ولكن – والحق يقال – إنك نسيت وصية روح الله الواردة في سفر متى "لا تلقوا جواهركم تحت أرجل الخنازير" حيث تجاهر بجواهر والأسرار ومعالي المعاني ، عند من لا يتسحق أن تخاطبه وتلاطفه ، وتجالسه وتؤانسه ، فكيف أنه يكون مستودع الحكمة الإلهية ، والأسرار الربانية ، فتمسك بالحكمة، وكان على جانب عظيم من الفطنة" [43] .
ويقول في رسالة أرسلها إلى الشيخ فرح الله زكي الكردي أحد أتباعهم في مصر "... واعلم يا حبيبي أنه سيدخل عليكم كثيرون ، ويتظاهرون بنوايا المتفحص الباحث ، ويظهرون السلم والوفاق ، وهم أهل النفاق أاصل الشقاق ، ومقصودهم معرفة أهل الإيمان ، واضطهاد أصحاب الإيقان كما تصرح وتنادي آي الفرقان : منها قوله تعالى: } يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب {... إلى آخر الآيات [44] ، فتحكم الآية المباركة أنه لابد من دخول أهل النفاق على أصحاب الوفاق ، للاستطلاع والاستراق ، فلا يغرنك تحببهم وترفقهم ، ولا يخدعنك ملاينتهم وتملقهم ، فإن التهور والتعجيل يوجب الندم والافتضاح ، والتروي يكفل النجاح والفلاح ، ومن الحكم المأثورة : "العجلة من الشيطان ، والتأني من الرحمن" [45] .
من كل ما تقدم يظهر لنا بوضوح : أن البابية والبهائية ليسوا أصحاب نحلة جديدة في تعاليمها ومعتقداتها ، وإنما هم قوم من أهل الباطن يريدون الكيد للإسلام باسم الإصلاح الديني ، وسيظهر لك من تأويلاتهم للقرآن – علاوة على ما سبق – أنهم ينهجون نهج الباطنية الأول ، ويرتسمون خطاهم في تحريفهم لكتاب الله ، والعبث بآياته!!.
*****
· موقف البابية والبهائية من تفسير القرآن الكريم:
لم تحل عقائد البابية والبهائية بينهم وبين الاعتراف بالقرآن الكريم ، ولم يمنعهم موقفهم الشاذ من الرجوع إليه ليأخذوا منه الشواهد على دعاواهم الباطلة ، ومذاهبهم الفاسدة ، تمويها على العامة ، وتغريرا بعقول الأغمار الجهلة.
***
· أبو الفضائل الايراني يعيب تفاسير أهل السنة:
ولم يكن في وجوههم قطرة من الحياء تمنعهم من التنديد بتفاسير علماء أهل السنة وتحقيرها ، فهذا داعيتهم أبو الفضائل الإيراني ، نجده في رسالة أرسلها لصديق له ، يعيب على تفاسير أهل السنة فيقول : ".... ولقد يدهش الإنسان ويتحير يا حبيبي من تعاليمهم الباطلة ، وتفاسيرهم المضحكة ، فإن أحباءنا الأمريكيين الذين تشرفوا بالوفود على الأرض المقدسة في هذه الأيام الأخيرة قابلناهم في بيروت ، وسافرنا معهم الى الأرض الفيحاء مدينة حيفا ، أخبرونا بما يتحير منه الأريب ، ويدهش منه اللبيب ، كيف تقدمت كلمة الله في تلك الأقطار البعيدة الشاسعة مع هذه التفاسير الباطلة الضائعة ، من النفوس الجاهلة الخادعة؟ أليس ذلك من عظيم قدرة الله وشديد قوته ؟ وسطوع آياته وظهور بيناته " ؟ [46] .
 يعيب أبو الفضائل تفسير أهل السنة ، لأنه يرى في زعمه أنه وأهل نحلته خير من يفهم القرآن ، ويعلم ما فيه من أسرار ورموز ، ويرى أنه ومن شاكله هم الراسخون في العلم ، الذين يقفون على عجائب القرآن التي لا يدل عليها إلا باطنه ، أما ما يعني به مفسرو أهل السنة من الظواهر فليس في زعمه من المعاني التي يرمي إليها القرآن ، وفي هذا يقول ما نصه : "... لو كان معاني آيات القرآن ما هو ظاهر يعرفه كل من يعرف اللغة العربية ، ويتلذذ منه كل من له إلمام بالعلوم الأدبية ، كيف يتم هذا القول – يريد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن : إنه لا تنقضي عجائبه – وكيف يصدق قول الله في الآية (7) من سورة آل عمران : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ{ .
******
· انتاج البابية والبهائية في التفسير، ومثل من تأويلاتهم الفاسدة:
ولكن هل وصل إلى أيدينا شئ من كتب هذه الطائفة في تفسير القرآن ؟ لم نسمع ولم نقرأ أنهم ألفوا تفسيراً متناولا للقرآن آية آية ، وإنما قرأنا أن رئيسهم الأول فسر سورة البقرة ، وسورة الكوثر ، ولكن لم يصل إلى أيدينا شئ من ذلك ، وكل ما وصل إلينا هو نبذ من تفسيره ، وتفسير بعض أشياعه ودعاته ، قرأناها في كتبهم أنفسهم ، وفي الكتب والمقالات التي كتبت عنهم ، وهذه النبذ مع قلتها تصور لنا مقدار تهجمهم على تحريف القرآن الكريم ، والميل بنصوصه إلى ما يرضي اهواءهم ، ويشبع أطماعهم . وإليك بعض هذه التأويلات ، لتقف بنفسك على مقدار هذيان القوم ، وتلاعبهم بالقرآن وبالعقول !!.
· من تأويلات الباب:
فسر الباب سورة يوسف ، فمشى فيها على طريقة التأويل الذي لا يقره الشرع ولا يقبله العقل ، ولا يمكن أن يفهمه إلا من يفهم لغة المبرسمين [47] كما قيل.
وإليك بعض ما قاله الباب في تفسيره لسورة يوسف ، لتقف على مقدار هذيانه ، وتلاعبه بالنصوص القرآنية.
عند قوله تعالى في الآية (4) } إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ{ .. يقول ما نصه : " وقد قصد الرحمن من ذكر يوسف نفس الرسول ، وثمرة البتول ، حسين أبن علي بن أبي طالب مشهوداً.... إذ قال حسين لأبيه يوماً : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم بالإحاطة على الحق لله القديم سجاداً ... وإن الله قد أراد بالشمس فاطمة ، وبالقمر محمداً ، وبالنجوم آئمة الحق في أم الكتاب معروفا ، فهم الذين يبكون على يوسف بإذن الله سجداً وقياما ".
وفي قوله تعالى في الآية (5) } قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ { ... يقول ما نصه : "إذ قال على يا بني لا تخبر مما أراك الله من أمرك إخوتك ترحما على الفهم ، وصبرا لله العلي ، وهو الله كان عزيزاً حميداً ، إن كانت تخبر من أمرك في بعض مما قضى الله فيك ، فيكيدوا لك كيدا ، بأن يقتلوا أنفسهم في محبة الله من دون نفسك الحق شهيداً ، وإن الله لوجهك بدمك محمرا على الأرض بالحق على الحق صبيغاً وإن الله قد شاء كما شاء أن يراك مخضبا شعرك من دمك ونفسك على الأرض على غير الحق لدى الحق قتيلا . وجسمك على الأرض عريا . وإن الله شاء كما شاء بأن يرى بناتك وحريمك في أيدي الكافرن أسيراً "..
وعند قوله تعالى في الآية (8) } إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { .. يقول ما نصه : "... إذ قالوا حروف لا إله إلا الله . وإن يوسف أحب إلي أبينا منا بما قد سبق من علم مرتفعا عما في الدينا وأيدي العالمين جميعا . وإنا نحن عصبة فيما أراد الله في شأن يوسف النبي محمد العربي حول السطر مسطوراً . وإن الله قد فضل إبانا بفضل نفسه وقدر الله سر المستسر من سر مره بما في أيدي العالمين بالكشف المبين على أهل النار من سر "الباء" ضلالا.... الخ [48] .
*****
· من تأويلات بهاء الدين :
ويروي بهاء الله أن ما ورد في القرآن عن الصراط ، والزكاة ، والصيام ، والحج، والكعبة ، والبلد الحرام ، وما إلى ذلك ، كله لا يراد به ظاهره وإنما يراد به الأئمة . وفي هذا يقول في الكتاب : " قال أبو جعفر الطوسي : قلت لأبي عبدالله : أنتم الصراط في كتاب الله ، وأنتم الزكاة ، وأنتم الحج ؟ قال . يا فلان.. نحن الصراط في كتاب الله عز وجل ، ونحن الزكاة ، ونحن الصيام ، ونحن الحج ، ونحن الشهر الحرام ، ونحن البلد الحرام ، ونحن كعبة الله ، ونحن قبلة الله ، ونحن وجه الله " [49] .
وفي كتاب بهاء الله والعصر الجديد ، ما يدل على أن البهائيين لا يعترفون بالبعث ولا بالجنة والنار ، حيث يفسرون يوم الجزاء ويوم القيامة بمجئ ميرزا حسين الملقب ببهاء الله قال في كتاب بهاء الله والعصر الجديد "وطبقا للتفاسير البهائية ، يكون مجئ كل مظهر إلهي عبارة عن يوم الجزاء ، إلا أن مجئ المظهر الأعظم بهاء الله : هو يوم الجزاء الأعظم للدورة الدنيوية التي نعيش فيها " وقال : " ليس يوم القيامة أحد الأيام العادية ، بل هو يوم يبتدئ بظهور المظهر ، ويبقى ببقاء الدورة العالمية " [50] .
ويفسر البهائية الجنة بالحياة الروحانية ، والنار بالموت الروحاني ، فقد جاء في كتاب بهاء الله والعصر الجديد " أن الجنة والنار في الكتب المقدسة حقائق مرموزة " فالجنة ترمز الى حياة الكمال ، والنار ترمز الى حياة النقص ، ولما كانت الحياة الروحية في نظر البهاء هي الإيمان به ، والموت الروحي هو تكذيب دعوته . فإنا نراه يقرر ذلك فيقول : "... منهم من قال : هل الآيات نزلت ؟ قل : أي ورب السموات . قال: أين الجنة والنار؟ قل : الأولى لقائي ، والأخرى نفسك يا أيها المشرك المرتاب" [51] .


الفصل الخامس
تفسير الصوفية 
· أصل كلمة تصوف:
وقع الاختلاف في أصل هذه الكلمة " تصوف " فقيل : إنها مشتقة من الصوف ، وذلك لأن الصوفية خالفوا الناس في لبس فاخر الثياب فلبسوا الصوف تقشفاً وزهداً ، وقيل : إنه من الصفاء ، وذلك لصفاء قلب المريد ، وطهارة باطنه وظاهره عن مخالفة ربه . وقيل : إنه مأخوذ من الصفة التي ينسب إليها فقراء الصحابة المعروفون بأهل الصفة . ويرى غيرهم أنه لقب غير مشتق . قال القشيري رحمه الله : "ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من وجهة العربية ، ولا قياس ، والظاهر أنه لقب . ومن قال باشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي . قال : وكذلك من الصوف ، لأنهم لم يختصوا به" [52] .
*****
· معنى التصوف:
وأما معنى التصوف .. فقيل : "هو إرسال النفس مع الله على ما يريده " [53] .
وقيل : " هو مناجاة القلب ومحادثة الروح ، وفي هذه المناجاة طهرة لمن شاء أن يتطهر ، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس ، وفي تلك المحادثة عروج إلى سماء النور والملائكة ، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام . وما هذا الحديث والنجوى إلا ضرب من التأمل ، والنظر ، والتدبر في ملكوت السموات والأرض، بيد أن الجسم والنفس متلازمان وتوأمان لا ينفصلان ، ولا سبيل إلى تهذيب أحدهما بدون الآخر. فمن شاء لنفسه صفاء ورفعة فلابد له أن يتبرأ عن الشهوات وملذات البدن .. فالتصوف إذن : فكر وعمل ، ودراسة ، وسلوك " [54] .
*****
· نشأة التصوف وتطوره:
والتصوف بهذا المعنى موجود منذ الصدر الأول للإسلام فكثير من الصحابة كانوا معرضين عن الدنيا ومتاعها ، آخذين أنفسهم بالزهد والتقشف ، مبالغين في العبادة ، فكان منهم من يقوم الليل ويصوم النهار، ومنهم من يشد الحجر على بطنه تربية لنفسه وتهذيباً لروحه ، غير أنهم لم يعرفوا في زمنهم باسم الصوفية ، وإنما اشتهر بهذا اللقب فيما بعد من عرفوا بالزهد والتفاني في طاعة الله تعالى ، وكان هذا الاشتهار في القرن الثاني الهجري ، وأول من سمى بالصوفي : أبو هاشم الصوفي المتوفي سنة 150 هـ (خمسن ومائة من الهجرة) [55] .
وفي هذا القرن وما بعده تولدت بعض الأبحاث الصوفية ، وظهرت تعاليم القوم ونظرياتهم التي تواضعوا عليها ، وأخذت هذه الأبحاث تنمو وتتزايد كلما تقادم العهد عليها . وبمقدار ما اقتبسه القوم من المحيط العلمي الذي يعيشون فيه تطورت هذه الأبحاث والنظريات.
ولقد استفاد المتصوفة من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء ما كان له الأثر الأكبر في هذا التطور الصوفي ، غير أنهم أخذوا من الفلسفة بحظ وافر، بل وكونوا فلسفة خاصة بهم ، حتى أصبحنا نرى بينهم رجالا أشبه بالفلاسفة منهم بالمتصوفة ، وأصبحنا نرى بعضهم يدين بمسائل فلسفية لا تتفق ومبادئ الشريعة ، مما أثار عليهم جمهور أهل السنة ، وجعلهم يحربون التصوف الفلسي، ويؤيدون التصوف الذي يدور حول الزهد ، والتقشف ، وتربية النفس ، وإصلاحه .. وما زال أهل السنة يحاربون التصوف الفلسفي حتى كادوا يقضون عليه في نهاية القرن السابع الهجري.
ومن ذلك الوقت دخل في التصوف رجال من غير أهله ، تظاهروا بالورع والطاعة ، وتحلوا بالزهد الكاذب والتقشف المصطنع ، فأصبحنا نرى بعض الجهلاء الأميين يشرفون على الطريق ، ويتولون تربية الأتباع والمريدين ، ووقفت التعاليم الصوفية عند دائرة محدودة ، هي دائرة الأوراد والأذكار ، وإن تعدتها فلا أكثر من بعض الأبحاث الضيقة في الفقه والتفسير والحديث.
*****


 
· اقسام التصوف:
مما تقدم يتضح لنا أن التصوف ينقسم إلى قسمين أساسيين :
تصوف نظري: وهو التصوف الذي يقوم على البحث والدراسة .
وتصوف عملي : وهو التصوف الذي يقوم على التقشف والزهد والتفاني في طاعة الله . وكل من القسمين كان له أثره في تفسير القرآن الكريم ، مما جعل التفسير الصوفي ينقسم أيضاً إلى قسمين : تفسير صوفي نظري . وتفسير صوفي فيضي أو أشاري . وسنتكلم على كل قسم منهما بما يفتح الله به ويوفق اليه:
اولا – التفسير الصوفي النظري:
وجد من المتصوفة – كما قلنا – من بنى تصوفه على مباحث نظرية ، وتعاليم فلسفية ، فكان من البدهي أن ينظر هؤلاء المتصوفة إلى القرآن الكريم نظرة تتمشى مع نظرياتهم ، وتتفق وتعاليمهم .
وليس من السهل أن يجد الصوفي في القرآن ما يتفق صراحة مع تعاليمه ، ولا ما يتمشى بوضوح مع نظرياته التي يقول بها ، إذ آن القرآن عربي جاء لهداية الناس لا لإثبات نظرية من النظريات ، ربما كانت في الغالب مستحدثة وبعيدة عن روح الدين وبداهة العقل .
غير أن الصوفي حرصاً منه على أن يتسلم له تعاليمه ونظرياته ، يحاول أن يجد في القرآن ما يشهد له أو يستند إليه ، فتراه من أجل هذا يتعسف في فهمه للآيات القرآنية ، ويشرحها شرحا يخرج بها عن ظاهرها الذي يؤيده الشرع ، وتشهد له اللغة.
*****


 
· ابن عربي شيخ هذه الطريقة:
ونستطيع أن نعتبر الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي شيخ هذه الطريقة في التفسير ، إذ أنه أظهر من خب فيها ووضع ، وأكثر أصحابه معالجة للقرآن على طريقة التصوف النظري ، وإن كان له من التفسير الإشاري ما يجعله في عداد المفسرين الإشاريين إن لم يكن شيخهم ايضا.
*****
 
· تأثر ابن عربي بالنظريات الفلسفية:
نقرأ لابن عربي في الكتب التي يشك في نسبتها إليه ، كالتفسير المشهور باسمه ، وفي الكتب التي تنسب إليه على الحقيقة كالفتوحات المكية ، والفصوص ، فنراه يطبق كثيراً من الآيات القرآنية على نظرياته الصوفية الفلسفية .
فمثلا يفسر بعض الآيات بما يتفق والنظريات الفلسفية الكونية ، فعند قوله تعالى في الآية (57) من سورة مريم في شأن إدريس عليه السلام : } وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً { .. نجده يقول : " وأعلى الأمكنة المكان الذي تدور عليه رحى عالم الأفلاك ، وهو فلك الشمس ، وفيه مقام روحانية إدريس ، وتحته سبعة أفلاك ، وفوقه سبعة أفلاك ، وهو الخامس عشر"..
ثم ذكر الأفلاك التي تحته ، والتي فوقه ، ثم قال : "وأما علو المكانة فهو لنا أعني المحمدين كما قال تعالى : } وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ { . [56] . في هذا العلو ، وهو يتعالى عن المكان لا عن المكانة " [57] .
وعند قوله تعالى في الآية (87-101) وما بعدها من سورة البقرة : } وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ { .. إلى قوله – } كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ { يقول : "... والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال ، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها يقبضها بنفسه أو بالوسائط التي هي أعوانه يسلمها إلى الله تعالى" [58] .
وعند قوله تعالى في الآيتين (19، 20) من سورة الرحمن } مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ{19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ { .. يقول: } مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ { .. بحر الهيولي الجسمانية الذي هو الملح الأجاج ، وبحر الروح المجرد الذي هو العذب الفرات } يَلْتَقِيَانِ { . في الوجود الإنساني } بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ{ . هو النفس الحيوانية التي ليست في صفاء الروح المجردة ولطافتها ، ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها } لَّا يَبْغِيَانِ {.. لا يتجاوز أحدهما حده فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح يجرد البدن ويخرج به ويجعله من جنسه ، ولا البدن يجسد الروح ويجعله مادياً... سبحان خالق الخلق القادر على ما يشاء " [59] .
*****
· تأثره في تفسيره بنظرية وحدة الوجود:
كذلك نرى ابن عربي يتأثر في تفسيره للقرآن بنظرية وحدة الوجود ، التي هي أهم النظريات التي بنى عليها تصوفه ، فنراه في كثير من الأحيان يشرح الآيات على وفق هذه النظرية ، حتى إنه ليخرج بالآية عن مدلولها الذي أراده الله تعالى.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة النساء } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ { .. الآية ، نجده يقول : } اتَّقُواْ رَبَّكُمُ {.. اجعلوا ما ظهر منكم وقاية لربكم ، واجعلوا ما بطن منكم – وهو ربكم – وقاية لكم ، فإن الأمر ذم وحمد ، فكونوا وقايته في الذم ، واجعلوه وقايتكم في الحمد تكونوا أدباء عالمين" [60] .
وفي تفسيره لقوله تعالى في الآيتين (29 ،30 ) من سورة الفجر } فَادْخُلِي فِي عِبَادِي{29} وَادْخُلِي جَنَّتِي { .. يقول : "... وادخلي جنتي التي هي سترى ، وليست جنتي سواك ، فأنت تسترني بذاتك الإنسانية فلا أعرف الا بك ، كما أنك لا تكون إلا بي فمن عرفك عرفني ، وأنا لا أعرف فانت لا تُعرف ، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك ، فتعرف نفسك معرفة اخرى ، غير المعرفة التي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها ، فتكون صاحب معرفتين : معرفة به من حيث أنت ، ومعرفة به بك من حيث هو لا من حيث أنت ، فأنت عبد رأيت رباً ، وأنت رب لمن له فيه أنت عبد ، وأنت رب وأنت عبد لمن له في الخطاب عهد".... الخ [61] .
وفي سورة آل عمران عند قوله تعالى في الآية (191) } رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ { .. أي شيئا غيرك ، فإن غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاه صفاتك " سبحانك " ننزهك أن يوجد غيرك . أي يقارن شئ فردانيتك أو يثنى وحدانيتك" [62] .
ومثلا عند قوله تعالى في الآيتين (9 ،10) من سورة الشمس } قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا{9} وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا { .. يقول : " تحقيق هذا الذكر أن النفس لا تزكوا الا بربها ، فيه تشريف وتعظيم في ذاتها ، لأن الزكاة ربو ، فمن كان الحق سمعه وبصره وجميع قواه ، والصورة في الشاهد صورة خلق ، فقد زكت نفس من هذا نعته ، وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، كالأسماء الإلهية لله . والخلق كله بهذا النعت في نفس الأمر ، ولولا أنه هكذا في نفس الأمر ما صح بصورة الخلق ظهور ولا وجود ، ولذلك خاب من دساها ، لأنه جهل ذلك فتخيل أنه دسها في هذا النعت ، وما علم أن هذا النعت لنفسه نعت ذاتي لا ينفك عنه ويستحيل زواله . لذلك وصفه بالخيبة حيث لم يعلم هذا ، ولذلك قال: " قد افلح " ففرض له البقاء ، والبقاء ليس إلا لله ، أو لما كان عند الله ، وما ثم الا الله ، أو ما هو عنده ، فخزائنه غير نافدة ، فلي إلا صور تعقب صوراً " [63] .
.. وغير هذا كثير من قس الآيات وإخضاعها لنظرية وحدة الوجود التي يدين بها ابن عربي .
*****
· قياسه الغائب على الشاهد:
كذلك نجد ابن عربي يفهم بعض النصوص القرآنية فهما خيالياً منتزعاً من المشاهد المحسوس ، فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في أول سورة الرحمن:
 } الرَّحْمَنُ{1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ{2} خَلَقَ الْإِنسَانَ{3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{4} الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ{5} وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{6} وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ {.. يقول ما نصه: } الرحمن{. على أي قلب نزل } خَلَقَ الْإِنسَانَ{ فعين له الصنف المنزل عليه } عَلَّمَهُ الْبَيَانَ{ .. أي نزل له البيان فأ بان عن المراد الذي في الغيب } الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ{ .. ميزن حركات الأفلاك } وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ{ .. لهذا الميزان ، أي من أجل هذا الميزان ، فمنه ذو ساق وهو الشجر، ومنه ما لا طاق له وهو النجم ، فاختلفت السجدتان . } وَالسَّمَاء رَفَعَهَا{ .. وهي قبلة الميزان } وَوَضَعَ الْمِيزَانَ{.. ليزن به الثقلان } أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ{ .. . علم القرآن
بالإفراط والتفريط من أجل الخسران } وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ{ .. مثل اعتدال نشأة الإنسان ، إذ الإنسان لسان الميزان } وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ { أي لا تفرطوا بترجيح إحدى الكفتين إلا بالفضل . وقال تعالى } وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ { .. [64]} وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ { ..
} وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ { .. وقد خلق جسد الإنسان على صورة الميزان ، وجعل كفتيه : يمينه وشماله ، وجعل لسانه : قائمة ذاته . فهو لأي جانب مال ، وقرن الله السعادة باليمين ، وقرن الشقاء بالشمال ، وجعل الميزان الذي يوزن بالأعمال على شكل القبان ، ولهذا وصف بالثقل والخفة ، ليجمع بين الميزان العددي وهو قوله تعالى " بحسبان " .. وبين ما يوزن بالرطل ، وذلك لا يكون إلا في القبان ، فلذلك لم يعين الكفتين ، بل قال : فأما من ثقلت موازينه ... في حق السعداء ، وأما من خفت موازينه .. في حق الأشقياء ، ولو كان ميزان الكفتين لقال : وأما من ثقلت كفة حسناته فهو كذا ، وأما من ثقلت كفة سيئاته فهو كذا . وإنما جعل ميزان الثقل هو عين ميزان الخفة كصورة القبان ، ولو كان ذا كفتين لوصف كفة السئيات بالثقل أيضاً إذا رجحت على الحسنات ، وما وصفها قط إلا بالخفة فعرفنا أن الميزان على شكل القبان..." [65] . فاعلم أنه ما من صنعة ولا مرتبة ولا حال ولام مقام إلا والوزن حاكم عليه علماً وعملا ، فللمعاني في ميزان بيد العقل يسمى المنطق ، يحتوي على كفتين تسمى المقدمتين ، وللكلام ميزان يسمى النحو يوزن به الألفاظ لتحقيق المعاني التي تدل عليه ألفاظ ذلك اللسان ، ولكل ذي لسان ميزان وهو المقدار المعلوم الذي قرنه الله بإنزال الأرزاق فقال :
*****

· اخضاعه قواعد النحو لنظراته الصوفية:
وكذلك يخضع ابن عربي التفسير الصوفي النظري إلى القواعد النحوية أحياناً ، ولكنه خضوع يكفيه الصوفي على حسب ما يرضى روحه ويوافق ذوقه ، فنجد ابن عربي مثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (30 ) من سورة الحج  } وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ { .. يقول : ..وقوله " عند ربه " .. العامل في هذا الظرف في طريقنا . قوله : " ومن يعظم " . أي من يعظمها عند ربه ، أي في ذلك الموطن ، فلتبحث في المواطن التي تكون فيها عند ربك ما هي ؟... كالصلاة مثلا ، فإن المصلي يناجي ربه ، فإذا عظم حرمة الله في هذا الموطن كان خيراً له ... والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند ربه ، فيعظم هناك حرمة الله ، فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل له في نومه أو يراها له غيره . والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها حرمات الله على الشهود" [66] .
*****
· التفسير الصوفي النظري في الميزان:
من هذه الأمثلة السابقة كلها نستطيع أن نقرر في صراحة واطمئنان : أن التفسير الصوفي النظري تفسير يخرج بالقرآن – في الغالب – عن هدفه الذي يرمي إليه !! .. يقصد القرآن هدفاً معيناً بنصوصه وآياته ، ويقصد الصوفي هدفاً معينا بأبحاثه ونظرياته . وقد يكون بين الهدفين تنافر وتضاد ، فيأبى الصوفي إلا أن يحول القرآن عن هدفه ومقصده ، إلى ما يقصده هو ويرمي إليه ، وغرضه بهذا كله : أن يروج لتصوفه على حساب القرآن ، وأن يقيم نظرياته وأبحاثه عن أساس من كتاب الله ، وبهذا الصنيع يكون الصوفي فقد خدم فلسفته التصوفية ولم يعمل للقرآن شيئا ، اللهم إلا هذا التأويل الذي كله شر على الدين وإلحاد في آيات الله !!..
ثانيا: التفسير الصوفي الفيضي او الاشاري – حقيقته:
التفسير الفيضي أو الإشاري : هو تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة .
· الفرق بينه وبين التفسير الصوفي النظري:
وعلى هذا فالفرق بين التفسير الصوفي الاشاري والتفسير الصوفي النظري من وجهين :
اولا : أن التفسير الصوفي النظري ، ينبني على مقدمات علمية تنقدح في دهن الصوفي أولا ، ثم ينزل القرآن عليها بعد ذلك .
أما التفسير الإشاري ، فلا يرتكز على مقدمات علمية ، بل يرتكز على رياضة روحية يأخذ بها الصوفي نفسه حتى يصل الى درجة تنكشف له فيها من سجف العبارات هذه الاشارات القدسية ، وتنهل على قلبه من سحب الغيب ما تحمله الآيات من المعارف السبحانية .
ثانياً: أن التفسير الصوفي النظري ، يرى صاحبه أنه كل ما تحتمله الآية من المعاني ، وليس وراءه معنى آخر يمكن أن تحمل الآية عليه... وهذا بحسب طاقته طبعاً .
أما التفسير الإشاري ، فلا يرى الصوفي أنه كل ما يراد من الآية ، بل يرى أن هناك معنى آخر تحتمله الآية ويراد منها أولا وقبل كل شئ ، ذلك هو المعنى الظاهر الذي ينساق إليه الذهن قبل غيره .
· هل للتفسير الاشاري أصل شرعي ؟
ربما يجول بخاطر القارئ الكريم هذا السؤال وهو : للتفسير الإشاري أصل شرعي يقوم عليه ، أو هو أمر جد بعد ظهور المتصوفة وذيوع طريقتهم ؟ وللجواب عن هذا السؤال نقول :
لم يكن التفسير الإشاري بالأمر الجديد في إبراز معاني القرآن الكريم ، بل هو أمر معروف من لدن نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أشار إليه القرآن ، ونبه عليه الرسول عليه الصلاة والسلام ، وعرفه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وقالوا به .
أما إشارة القرآن إليه ، ففي قوله تعالى في الآية (78) من سورة النساء
} فَمَالِ هَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً  {.. وقوله في الآية (82) منها أيضا : } أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً {.. وقوله في الآية (24) من سورة محمد عليه السلام : } أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { فهذه الآيات كلها تشير إلى أن القرآن له ظهر وبطن . وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حيث ينعي على الكفار أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ، ويحضهم على التدبر في آيات القرآن الكريم لا يريد بذلك أنهم لا يفهمون نفس الكلام ، أو حضهم على فهم ظاهره ، لأن القوم عرب ، والقرآن لم يخرج عن لغتهم فهم يفهمون ظاهره ولا شك ، وإنما أراد بذلك أنهم لا يفهمون عن الله مراده من الخطاب ، وحضهم على أن يتدبروا في آياته حتى يقفوا على مقصود الله ومراده ، وذلك هو الباطن الذي جهلوه ولم يصلوا إليه بعقولهم [67] .
وأما تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فذلك في الحديث الذي أخرجه الفريابي من رواية الحسن مرسلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لكل آية ظهر وبطن ، ولكل حرف حد ، ولكل حد مطلع" وفي الحديث الذي أخرجه الديلمي من رواية عبدالرحمن بن عوف مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد".
ففي هذين الحديثين تصريح بأن القرآن له ظهر وبطن . ولكن ما هو الظهر وما هو البطن ؟ اختلف العلماء في بيان ذلك:
فقيل : ظاهرها – أي الآية – لفظها . وباطنها : تأويلها .
وقال ابو عبيدة: إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وحديث حدث به عن قوم ، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم ، فيحل بهم مثل ما حل بهم... ولكن هذا خاص بالقصص ، والحديث يعم كل آية من آيات القرآن.
وحكى ابن النقيب قولا ثالثاً : وهو أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم ، وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أهل الحقائق .
هذا هو أشهر ما قيل في معنى الظهر والبطن . وأما قوله في الحديث الأول : ولكل حرف حد ، فمعناه على ما قيل : لكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه ، أو لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب . والأول أظهر . وقوله : ولكل حد مطلع ، ومعناه على ما قيل أيضاً : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ويوقف على المراد به . وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة . والأول أظهر أيضا .
وأما الصحابة فقد نقل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا التفسير الإشاري وقالوا به ، أما الروايات الدالة على أنهم يعرفون ذلك فمنها :
ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال :
 " إن القرآن ذو شجون وفنون ، وظهور وبطون ، لا تنقضي عجائبه ، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا ، ومن أخبر فيه بعنف هوى ، أخبار وأمثال ، وحلال وحرام ، وناسخ ومنسوخ ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل ، فجالسوا به العلماء ، وجانبوا به السفهاء ".
وروى عن أبي الدرداء أنه قال : " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يجعل للقرآن وجوها".
وعن ابن مسعود أنه قال : " من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن" . وهذا الذي قالوه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر.
وأما الروايات الدالة على أنهم فسروا القرآن تفسيراً إشاريا ، فما رواه البخاري عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه قال : " كان عمر يدخلني مع اشباخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال : لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه من حيث علمتم ، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم . قال : ما تقولون في قوله تعالى } إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {.. فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي : أكذاك تقول يا أبن عباس ؟ فقلت : لا . قال: فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له . قال:  } إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {  .. وذلك علامة أجلك  } فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً {.. فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول" [68] .
فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر ، أما ابن عباس وعمر ، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر ، هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الاشارة.
وأيضا ما ورد من أنه لما نزل قوله تعالى في الآية (3) من سورة المائدة
 } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً {.. فرح الصحابة وبكى عمر رضى الله تعالى عنه وقال : ما بعد الكمال إلا النقص ، مستشعرا نعيه عليه الصلاة والسلام ، فقد أخرج ابن أبي شيبة  " أن عمر رضى الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص ، فقال عليه الصلاة والسلام : صدقت " [69] .
فعمر رضى الله عنه أدرك المعنى الإشاري : وهو نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقره النبي على فهمه هذا.. وأما باقي الصحابة .. فقد فرحوا بنزول الآية ، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها .
هذه الأدلة مجتمعة تعطينا أن القرآن الكريم له ظهر وبطن.. ظهر يفهمه كل من يعرف اللسان العربي.. وبطن يفهمه أصحاب الموهبة وأرباب البصائر. القاصرة ، بل هي أمر فوق ما نظن وأعظم مما نتصور . ولقد فهم ابن مسعود أن في فهم معاني القرآن مجالا رحباً ومتسعاً بالغاً فقال : "من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن " وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله } مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ { . [70]} مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ {.. وقال :
*****

· التفاوت في ادراك المعاني الباطنة واصابتها:
غير أن هذه المعاني المتكاثرة التي يشتمل عليها باطن القرآن لم تكن في متناول المفسرين جميعاً ، كما أنهم لم يكونوا متساوين في القدر الذي أدركوه منها ، بل تفاوتوا في ذلك بمقدار ما بينهم من تفاوت في الأخذ بالأسباب ، كما أنهم لم يكونوا جميعا مصيبين فيما وصلوا إليه منها وأدركوه ، بل أصابوا في بعض منها وأخطأوا في بعض آخر ، وما أخطأوا فيه : بعضه عن جهل ،  وبعضه عن تعمد خبيث ونية سيئة ، فالإمامية مع قولهم بالظاهر على ما به ، قالوا بالباطن أيضا، ولكنهم تعمدوا أن يفسروا الباطن على ما يتفق وعقيدتهم الفاسدة والباطنية ، لم يعترفوا بظاهر القرآن واعترفوا بالباطن فقط ، ولكنهم أيضا تعمدوا ان يفسروا الباطن على ما يتفق ونواياهم السيئة ، وكلا الفريقين ضال مبتدع.
أما الصوفية أهل الحقيقة وأصحاب الإشارة ، فقد اعترفوا بظاهر القرآن ولم يجحدوه ، كما اعترفوا بباطنه ، ولكنهم حين فسروا المعاني الباطنة خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، فبينما تجد لهم أفهاما مقبولة سائغة ، تجد لهم بجوارها أفهاما لا يمكن أن يقبلها العقل أو يرضى بها الشرع ، ولهذا أرى أن أستعرض بعض ما للقوم من أفهام في التفسير ، ثم أحكم عليها حكما مجرداً عن كل شئ إلا عن الحق والإنصاف ، ثم بعد هذا أذكر شروط التفسير الإشاري ، وهي الشروط التي إذا توافرت فيه جاز لنا قبوله والأخذ به ، وإلا أستقطناه ورفضناه مهما كان لقائله من المكانة في نفوسنا أو في نفوس القوم .
*****


 
· التفسير الاشاري في الميزان:
قلنا : إن القرآن له ظهر وبطن وذكرنا لك أهم الأقوال في معنى الظاهر والباطن ، ومهما يكن من شئ فإن ظاهر القرآن – وهو المنزل بلسان عربي مبين – هو المفهوم العربي المجرد . وباطنه هو مراد الله تعالى وغرضه الذي يقصد إليه من وراء الألفاظ والتراكيب ، هذا هو خير ما يقال في معنى الظاهر والباطن .
وعلى ذلك نقول : إن كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها داخل تحت الظاهر ، فالمسائل البيانية ، والمنازع البلاغية ، لا معدل لها عن ظاهر القرآن ، فإذا فهم الإنسان مثلا الفرق بين ضيق في قوله تعالى في الآية (125) من سورة الأنعام } فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء {.. وبين ضائق في قوله تعالى في الآية (12) من سورة هود } فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ {.. وعرف أن " ضيق " صفة مشبهة دالة على الثبوت والدوام في حق من يرد الله أن يضله ، وأن "ضائق" اسم فاعل يدل على الحدوث والتجدد وأنه أمر عارض له صلى الله عليه وسلم ، إذا فهم الإنسان مثل هذا فقد حصل له فهم ظاهر القرآن .
إذن فلا يشترط في فهم ظاهر القرآن زيادة على الجريان على اللسان العربي، وإذن كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي فليس من تفسير القرآن في شئ.. لا مما يستفاد منه ولا مما يستفاد به ومن ادعى فيه ذلك فهو مبطل في دعواه.
أما المعنى الباطن ، فلا يكفي فيه الجريان على اللسان العربي وحده . بل لابد فيه مع ذلك من نور يقذفه الله تعالى في قلب الإنسان يصير به نافذ البصير سليم التفكير ، ومعنى هذا أن التفسير الباطن ليس أمرا خارجا عن مدلول اللفظ القرآني ، ولهذا اشترطوا لصحة المعنى الباطن شرطين أساسيين :
أولهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب بحيث يجري على المقاصد العربية .
وثانيهما: أن يكون له شاهد نصاً أو ظاهراً في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض .
أما الشرط الأول : فظاهر من قاعدة كون القرآن عربياً ، فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ، ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن وليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه ، وما كان كذلك فلا يصح أن ينسبب إليه أصلا ، إذ ليست نسبته إليه على أنه مدلوله أولى من نسبة ضده إليه . ولا مرجح  يدل على أحدهما ، فإثبات أحدهما تحكم وتقوييل على القرآن ظاهر ، وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم .
وأما الشرط الثاني: فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان وله معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعي على القرآن ، والدعوى المجردة عن الدليل غيير مقبولة باتفاق العلماء [71] .
إذا توافر هذان الشرطان في معنى من المعاني الباطنة قبل ، لأنه معنى باطن صحيح ، وإلا رفض رفضاً باتاً ، لأنه معنى باطن فاسد وتقول على الله بالهوى والتشهي.
إذا عرفنا هذا كله ثم ذهبنا نستعرض على ضوئه أقوال القوم في معاني القرآن الباطنة ، وجدنا الكثير منها يمكن أن يكون من قبيل الباطن الصحيح ، وكثير منها أيضاً هو من قبيل الباطن الفاسد المرفوض ، وكبرى المشاكل ان بعضها منسوب الى رجال من أهل العلم لهم مكانة علمية ودينية في نفوسنا ، بل وبعضها منسوب إلى رجال من الصحابة ، وهم أعرف الناس بكتاب الله وما يحويه من المعاني والأسرار.
فمن الأفهام الباطنة المنقولة عنهم ويمكن أن تكون من قبيل الباطن الصحيح المقبول : ما جاء في قوله تعالى في الآية (22) من سورة البقرة } فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {.. من قول سهل التستري: "فلا تجعلوا لله اندادا" .. أي أضدادا ، فأكبر الأضداد ، فأكبر الأضداد : النفس الأمارة بالسوء ، المتطلعة إلى حظوظها ومناها بغير هدى من الله" [72] .
فهذا القول من سهل يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصل لكان المعنى : فلا تجعلوا لله اندادا لا صنما ، ولا شيطاناً، ولا النفس ، ولا كذا ، ولا كذا.. وهذا مشكل من حيث الظاهر، لأن سياق الآية وما يحف بها من قرائن يدل على أن الأنداد بها كل ما يُعبد من دون الله ، سواء : أكان صنما أم غير صنم ، أما الأنفس فلم تكن معبودة لهم ، ولم يعرف أنهم اتخذوها أربابا من دون الله ، ومع هذا فيمكن أن يكون لهذا التفسير وجه صحيح ، وبيان ذلك :
أن الناظر في القرآن الكريم ، قد يأخذ من معنى الآية معنى باب الاعتبار، فيجريه فيما لم تنزل فيه الآية ، لأنه يجامعه في القصد أو يقاربه ، وسهل التستري – رحمه الله – حين قال في الآية ما قال ، لم يرد أنه تفسير اللآية ، بل أتي بما هو ند في الاعتبار الشرعي ، وذلك لأن حقيقة الند : أنه المضاد لنده ، الجاري على مناقضته ، والنفس الأمارة هذا شأنها ، لأنها تأمر صاحبها بمراعاة حظوظها ، لاهية أو صادة عن مراعاة حقوق خالقها ، وهذا هو الذي يعني به الند بالنسبة لنده ، لأن الأصنام نصبوها لهذا المعنى بعينه ، وعلى هذا فلا غبار على قول سهل في الآية ، بل وهناك ما يشهد له من الجهتين – جهة حمل الأنداد على الأنفس الأمارة اعتباراً ، وجهة كون الخطاب – وإن كان موجها للمشركين – فيه لأهل الإسلام نظر واعتبار.
أما ما يشهد له من الجهة الأولى : فقوله تعالى في الآية (31) من سورة التوبة: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ {... وظاهر أنهم لم يعبدوهم من دون الله ، ولكنهم ائتمروا بأوامرهم ، وانتهوا عما نهوهم عنه كيف كان ، فما حرموا عليهم حرموه ، وما أباحوا لهم حللوه ، وفاتهم أن المحلل والمحرم هو الله فقال الله سبحانه: } اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ {.. وهذا بعينه هو شأن المتبع لهوى نفسه .
وأمام ما يشهد له من الجهة الثانية : فهو أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لبعض من توسع في الدنيا من أهل الإيمان : أين تذهب بكم هذه الآية } أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا { ؟ وكان هو يعتبر نفسه بها، مع أن الآية نزلت في حق الكفار لقوله تعالى : } وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ { [73].. الآية ، فعمر رضى الله عنه ، له في الآية نظر واعتبار ، فأخذ من معناها معنى أجرى الآية فيه وإن لم تنزل فيه ، حذرا منه وخوفا إن يكون التوسع في المباحات سببا في الحرمان من نعيم الآخرة ومتاعها ، فإذا صح لعمر رضى الله عنه أن ينزل الآية على المتوسعين في المباحات من المؤمنين ولم تنزل فيهم ، صح لسهل أيضاً أن ينزل الآية على النفس الأمارة وإن لم تنزل فيها كذلك .
ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى في الآية (35) من سورة البقرة } ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين { .. من قول سهل رحمة الله : هو لغيره.. أي لا تهتم شئ هو غيري . قال : فآدم عليه السلام لم يعصم من الهمة والفعل في الجنة ، فلحقه ما لحقه من أجل ذلك . قال : وكذلك كل من ادعى ما ليس له وساكنه قلبه ناظراً إلى هوى نفسه ، لحقه الترك من الله عز وجل مع ما جلبت عليه نفسه إلا أن يرحمه الله ، فيعصمه من تدبيره وينصره على عدوه وعليها .. قال : وآدم لم يعصم عن مساكتة قلبه إلى تدبير نفسه للخلود لما أدخل الجنة ، ألا ترى أن البلاء دخل عليه من أجل سكون القلب إلى ما وسوست به نفسه ، فغلب الهوى والشهوة العلم والعقل والبيان ونور القلب ، لسابق القدر من الله تعالى ، كما قال عليه السلام : الهوى والشهوة يغلبان العلم والعقل" [74] .
وبالنظر في كلام سهل هذا نرى أنه ادعى في الآية خلاف ما ذكره المفسرون من أن المراد النهي عن نفس الأكل ، لا عن سكون الهمة لغير الله ، وإن كان هذا منهيا عنه ايضاً ، لكن يمكن أن يكون لهذا الكلام الذي قاله سهل وجه يجري عليه، وذلك أن النهي في الآية لا يصح حمله على نفس القرب مجرداً ، إذ لا مناسبة فيه ظاهرة ، ولأنه لم يقل به أحد ، وإنما النهي عن معنى في القرب وهو إما التناول والأكل . وإما غيره وهو شئ ينشأ الأكل عنه، وذلك مساكنة الهمة ، فإنه الأصل في تحصيل الأكل ، ولا شك في أن السكون لغير الله لجلب منفعة أو دفع مفسدة منهي عنه .
فهذا التفسير له وجه الظاهر فكأنه يقول : لم يقع النهي عن مجرد الأكل من حيث هو أكل ، بل عما ينشأ عنه الأكل من السكون لغير الله ، إذ لو انتهى عما نهى الله عنه لكان ساكنا لله وحده : فلما لم يفعل وسكن إلى أمر في الشجرة غَّره به الشيطان وهو الخلود في الجنة ، أضاف الله إليه لفظ العصيان فقال في الآيتين (121 ،122) من سورة طه }  وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى{121} ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى {..
مثل هذا – وهو كثير في كلام الصوفية – لا نعدم له وجها نحمله عليه حتى يكون تفسيراً صحيحاً ومقبولا.

§ شروط قبول التفسير الاشاري:
تبين لنا فيما سبق أن التفسير الإشاري منه ما هو مقبول ومنه ما ليس بمقبول فعلينا بعد ذلك أن نذكر الشروط التي يجب أن تتوفر في التفسير الإشاري – وإن كنا تعرضنا لأهمها فيما سبق – حتى يكون تفسيراً مقبولا وإليك هذه الشروط :
§ أولا : أن لا يكون التفسير الإشاري منافيا للظاهر من النظم القرآني الكريم.
§ ثانيا: أن يكون له شاهد شرعي يؤيده .
§ ثالثا: أن لا يكون له معارض شرعي أو عقلي .
وهذه الشروط الثلاثة قد أوضحناها فيما سبق ، فلا حاجة بنا إلى إعادة توضيحها .
§ رابعا: أن يدعي أن التفسير الإشاري هو المراد وحده دون الظاهر، بل لابد أن نعترف بالمعنى الظاهر أولا ، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر "ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب " [75] .
إذا علمت هذا ، علمت بصورة قاطعة أنه لا يمكن لعاقل أن يقبل ما نقل عن بعض المتصوفة من أنه فسر قوله تعالى في الآية (255) من سورة البقرة } مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ {.. فقال : معناه : " من ذل " من الذل " ذي" إشارة إلى النفس " يشف " من الشفاء "ع " أمر من الوعي [76] .
وما نقل عن بعضهم من أنه فسر قوله تعالى في الآية (69) من سورة العنكبوت } وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {.. فجعل " لمع " فعلا ماضيا بمعنى أضاء و " المحسنين " مفعوله [77] .
هذا التفسير وأمثاله إلحاد في آيات الله ، والله تعالى يقول : } إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا {.. [78] قال الآلوسي في تفسير هذه الآية : " أي ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة ، وهو مراد ابن عباس بقوله : يضعون الكلام في غير موضعه " [79] .
هذه هي الشروط التي إذا توفرت في التفسير الإشاري كان مقبولا ، ومعنى كونه مقبولا عدم رفضه لا وجوب الأخذ به ، أما عدم رفضه فلأنه غير مناف للظاهر ولا بالغ مبلغ التعسف ، وليس له ما ينافيه أو يعارضه من الأدلة الشرعية.
وأما عدم وجوب الأخذ به ، فلأنه من قبيل الوجدانيات ، والوجدانيات لا تقوم على دليل ولا تستند الى برهان، وانما هي امر يجده الصوفي من نفسه، وسر بينه وبين ربه، فله ان يأخذ به ويعمل على مقتضاه ، دون ان يلزم به احدا من الناس سواه.

أهم كتب التفسير الاشاري
من العلماء من وجه همته إلى التفسير الظاهر ولم يتعرض للتفسير الإشاري، كالبيضاوي ، والزمخشري مثلا . ومنهم من جعل غالب همه في التفسير الظاهر وتعرض للتفسير الإشاري بقدر ، كما فعل النيسابوري ، والآلوسي . ومنهم من غلبت عليه ناحية التفسير الإشاري ومع ذلك فهو يتعرض أحيانا للتفسير الظاهر، كما فعل سهل التستريي . ومنهم من وجه همته كلها للتفسير الإشاري . ولم يحم حول المعاني الظاهرة ، كما فعل أبوعبد الرحمن السلمي ، ومنهم من أعرض عن الظاهر وجمع في تفسيره بين التفسير الصوفي النظري والتفسير الصوفي الإشاري كما فعل صاحب التفسير المنسوب لابن عربي .
وليس ضروريا أن تتكلم عن تفسير النيسابوري والآلوسي من ناحية ما فيهما من التفسير الإشاري ، لأنهما أقرب إلى أهل الظاهر منهما إلى أهل الإشارة إذ كان كلامهما عن التفسير الإشاري أمرا عارضا وتابعاً لغيره ، وقد سبق الكلام عنهما في كتب التفسير بالرأي المحمود .
ويكفي هنا أن نتكلم عن أهم الكتب التي وجه أصحابها فيها كل عنايتهم ، أو جلها نحو التفسير الإشاري ، وإليك أهم هذه الكتب :



1- تفسير القرآن العظيم – للتستري
§ التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير هو أبو محمد سهل بن عبدالله بن يونس بن عيسى ابن عبدالله ، التستري ، المولود بتستر[80] سنة 200هـ (مائتين) . وقيل سنة 201 (إحدى ومائتين من الهجرة ) .
كان – رحمه الله – من كبار العارفين ، ولم يكن له في الورع نظير. وكان صاحب كرامات ، ولقى الشيخ ذا النون المصري – رحمه الله – بمكة . وكان له اجتهاد وافر ورياضة عظيمة . أقام بالبصرة زمنا طويلا ، وتوفى بها سنة 283هـ ( ثلاث وثمانين ومائتين ) ، وقيل سنة 273هـ ( ثلاث وسبعين ومائتين ) ، فرحمه الله رحمة واسعة [81] .
* * *

§ التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
هذا التفسير مطبوع في مجلد صغير الحجم ، ولم يتعرض فيه مؤلفه لتفسير القرآن آية آية، بل تكلم عن آيات محدودة ومتفرقة من كل سورة . ويظهر لنا أن سهلا – رضى الله عنه –  لم يؤلف هذا الكتاب ، وإنما هي أقوال قالها سهل في آيات متفرقة من القرآن الكريم ، ثم جمعها أبو بكر محمد ابن أحمد البلدي ، المذكور في أول الكتاب ، والذي يقول كثيرا : قال أبو بكر : سئل سهل عن معنى كذا . فقال كذا ، ثم ضمنها هذا الكتاب ونسبها إليه .
نقرأ في هذا الكتاب ، فنجد مؤلفه يقدم له بمقدمة يوضح فيها معنى ظاهر القرآن وباطنه ، ومعنى الحد والمطلع ، فيقول : " ما من آية في القرآن إلا ولها أربعة معان : ظاهر، وباطن، وحد، ومطلع . فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحد : حلالها وحرامها . والمطلع : إشراق القلب على المراد بها . فقهاً من الله عز وجل . فالعلم الظاهر علم عام ، والفهم لباطنه والمراد به خاص : قال تعالى في الآية (78) من سورة النساء : } فَمَالِ هَـؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً {.. أي لا يفقهون خطابا " [82] .
ويقول في موضع آخر : قال سهل : إن الله تعالى ما استولى ولياً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا علمه القرآن ، إما ظاهراً وإما باطنا. قيل له : إن الظاهر نعرفه فالباطن ما هو ؟ قال : فهمه ، وإن فهمه هو المراد " [83] .
فمن هاتين العبارتين ، نأخذ أن سهلا التستري يرى : أن الظاهر هو المعنى اللغوي المجرد . وأن الباطن هو المعنى الذي يفهم من اللفظ ويريده الله تعالى من كلامه : كما نأخذ منه : أنه يرى أن المعاني الظاهرة أمرعام يقف عليها كل من يعرف اللسان العربي ، أما المعاني الباطنة ، فأمر خاص يعرفه أهل الله بتعليم الله إياهم وإرشادهم إليه .
كذلك نجد سهلا – رضى الله عنه – لم يقتصر في تفسيره على المعاني الإشارية وحدها . بل نجده يذكر أحيانا المعاني الظاهرة ، ثم يعقبها بالمعاني الإشارية ، وقد يقتصر أحيانا على المعنى الإشاري وحده ، كما يقتصر أحيانا على المعنى الظاهري ، بدون أن يعرج على باطن الآية .
وحين يعرض سهل للمعاني الإشارية لا يكون واضحا في كل ما يقوله ، بل تارة بالمعاني الغريبة التي نستبعد أن تكون مرادة لله تعالى ، وذلك كالمعاني التي نقلناها عنه سابقا في معنى البسملة ، وألم فاتحة البقرة ، وتارة يأتي بالمعاني الغريبة التي يمكن أن تكون من مدلول اللفظ أو مما يشير إليه اللفظ ، وذلك هو الغالب في تفسيره .
كذلك نجد المؤلف ينحو في كتابه هذا منحى تزكية النفوس ، وتطهير القلوب ، والتحلي بالأخلاق والفضائل التي يدل عليها القرآن ولو بطريق الإشارة... وكثيرا ما يسوق من حكايات الصالحين وأخبارهم ما يكون شاهداً لما يذكره ، كما أنه يتعرض في بعض الأحيان لدفع إشكالات قد ترد على ظاهر اللفظ الكريم ، وإليك نماذج من تفسيره .
وفي سورة الأعراف عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (148) : } وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ {.. يقول ما نصه : "عجل كل إنسان ما أقبل عليه فأعرض به عن الله من أهل وولد ، ولا يتخلص من ذلك إلا بعد إفناء جميع حظوظه من أسبابه، كما لم يتخلص عبدة العجل من عبادته إلا بعد قتل النفوس" [84] .
وفي سورة الشعراء عند تفسيره لقوله تعالى في الآيات (78-82) حكاية عن إبراهيم عليه السلام } الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{81} وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ { يقول ما نصه : } الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{ .. أي الذي خلقني لعبوديته يهديني إلى قربه } وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ { .. قال : يطعمني لذة الإيمان ويسقيني شراب التوكل والكفاية : } وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{.. قال : يعني إذا تحركت بغيره لغيره عصمني، وإذا ملت إلى شهوة من الدنيا منعها على } وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{.. قال : الذي يميتني ثم يحييني بالذكر
 } وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{. قال : أخرج كلامه على شروط الأدب بين الخوف والرجاء ، ولم يحكم عليه بالمغفرة " [85] .
وفي سورة الصافات عند قوله تعالى في الآية (107)  } وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ { . قال ما نصه : " إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أحب ولده بطبع البشرية ، تداركه من الله فضله وعصمته حتى أمره بذبحه، إذ لم ييكن المراد منه تحصيل الذبح ، وإنما كان المقصود تخليص السر من حب غيره بأبلغ الأسباب ، فلما خلص السر له، ورجع عن عادة الطبع ، فداه بذبح عظيم " [86] .
فهذه المعاني كلها مقبولة ويمكن إرجاعها بدون تكلف إلى اللفظ القرآني بدون معارضة شرعية أو عقلية.. والكتاب – في الغالب – يسير على هذه الطريقة ، وهي لا شوب فيها .
* * *


2- حقائق التفسير – للسلمى
§ التعريف بمؤلف هذا التفسير:
مؤلف هذا التفسير ، هو أبوعبدالرحمن ، محمد بن الحسين ابن موسى ، الأزدي السلمي ، المولود 330هـ ( ثلاثين وثلاثمائة من الهجرة ) ، وقيل غير ذلك.
كان رحمه الله شيخ الصوفية وعالمهم بخراسان ، له اليد الطولى في التصوف ، والعلم الغزير ، والسير على سنن السلف ، أخذ الطريق عن أبيه ، فكان موفقا في جميع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوف . وكان على جانب عظيم من العلم بالحديث ، حتى قيل : إنه حدث أكثر من أربعين سنة إملاء وقراءة . وكتب الحديث بنيسابور ، ومرو ، والعراق ، والحجاز ، وصنف سنناً لأهل خراسان ، وأخذ عنه بعض الحفاظ : منهم الحاكم أبو عبدالله ، وأبو القاسم القشيري ، وغيرهما ، ولقد خلف – رحمه الله – من الكتب ما يزيد على المائة : منها ما هو في علوم القوم ، ومنها ما هو في التاريخ ، ومنها ما هو في الحديث ، ومنها ما هو في التفسير .
ولكن السلمى مع وفرة جلالته ، وعظيم منزلته بين مريديه ، لم يسلم كغيره من الصوفية من الطعن عليه ، قال الخطيب : قال محمد بن يوسف النيسابوري القطان : كان السلمى غير ثقة ، يضع للصوفية ، وكأن الخطيب لم يرض هذا الطعن فيه ، فقال حكاية هذا القول : " قدر أبي عبدالرحمن عند أهل بلده جليل ، وكان من ذلك محمودا صاحب حديث " قال عند أهل بلده جليل ، وكان مع ذلك محمودا صاحب حديث " قال ابن السبكي صاحب طبقات الشافعية : " قول الخطيب فيه هو الصحيح ، وأبو عبدالرحمن ثقة ، ولاعبرة بهذا الكلام فيه " هذا ، وقد كانت وفاته سنة 4112هـ (اثنتى عشرة واربعمائة من الهجرة) ، فرحمه الله رحمة واسعة [87] .
~ التعريف بهذا التفسير وطريقة مؤلفه فيه:
يقع هذا التفسير في مجلد واحد كبير الحجم ، ومنه نسختان مخطوطتان بالمكتبة الأزهرية.
قرأت هذا التفسير، فوجدته يستوعب جميع سور القرآن ، ولكنه لا يتعرض لكل الآيات بل يتكلم عن بعضها ويغضي عن بعضها الآخر، وهو لا يتعرض فيه لظاهر القرآن ، وإنما جرى في جميع ما كتبه على نمط واحد ، وهو التفسير الإشاري، وهو إذ يقتصر على ذلك لا يعني أن التفسير الظاهر غير مراد ، لأنه يصرح في مقدمة تفسيره : أنه أحب أن يجمع تفسير أهل الحقيقة في كتاب مستقل كما فعل أهل الظاهر .
ثم إن أبا عبدالرحمن السلمى . لم يكن له مجهود في هذا التفسير أكثر من أنه جمع مقالات أهل الحقيقة بعضها الى بعض ، ورتبها على حسب السور والآيات ، وأخرجها للناس في كتاب سماه : حقائق التفسير.
وأهم من ينقل عنه السلمى في حقائقه : جعفر بن محمد الصادق ، وابن عطاء الله السكندري ، والجنيد ، والفضيل بن عياض ، وسهل ابن عبدالله التستري وغيرهم كثير.
وإليك بعض ما قاله في مقدمته لتعلم أن السلمى حين اقتصر على المعاني الإشارية لم يجحد المعاني الظاهرة للقرآن ، ولتعلم أيضاً أن مجهوده في هذا التفسير إنما هو الجمع والترتيب .
قال رحمه الله : ".. لم رأيت المتوسمين بالعلوم الظواهر سبقوا في أنواع فرائد القرآن : من ، قراءات ، تفاسير ، ومشكلات ، وأحكام، وإعراب ، ولغة ، ومجمل ، ومفسر ، وناسخ ، ومنسوخ ، ولم يشتغل أحد منهم بجمع فهم خطابه على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة ، نسبت إلى أبي العباس بن عطاء ، وآيات ذكر أنها عن جعفر بن محمد على غير ترتيب ، وكنت قد سمعت منهم في ذلك حروفا استحسنتها ، أحببت أن أضم ذلك إلى مقالتهم ، وأضم أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك ، وأرتبه على السور حسب وسعي وطاقتي ، واستخرت الله في جمع شئ من ذلك، واستعنت به في ذلك وفي جميع أموري ، وهو حسبي ونعم المعين " [88] .
~ طعن بعض العلماء على هذا التفسير:
غير إن الاقتصار على المعاني الإشارية ، والإعراض ، عن المعاني الظاهرة في هذا المؤلف ، ترك للعلماء مجالا للطعن على هذا التفسير وعلى صاحبه من أجله ، فالجلال السيوطي رحمه الله يذكر أبا عبدالرحمن السلمي في كتابه طبقات المفسرين ضمن من صنف في التفسير من المبتدعة ويقول : "وإنما أوردته في هذا القسم لأن تفسيره غير محمود " [89]. والحافظ الذهبي رحمه الله يقول عن السلمي: "... وله كتاب يقال له حقائق التفسير ، وليته لم يصنفه . فإنه تحريف وقرمطة ، ودونك الكتاب فسترى العجب " [90] ويقول السبكي في طبقات الشافعية : " وكتاب حقائق التفسير ، كثر الكلام فيه من قبل أنه اقتصر فيه على ذكر تأويلات ، ومحال للصوفية ينبو عنها اللفظ " [91] .
وقد مر بك آنفا أن الإمام أبا الحسن الواحدي قال : " صنف أبو عبدالرحمن السلمي حقائق التفسير ، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر".
وهذا هو الإمام ابن تيمية يطعن على تفسير السلمى من ناحية أخرى فيقول : "وما ينقل في حقائق السلمى عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه في غير ذلك. [92]

_ رأينا في هذه الطعون:
هذا.. وإن عد السيوطي السلمى في ضمن المفسرين من أهل البدع غلو منه وإجحاف.
وما قاله الذهبي من أن ما في الحقائق تحريف وقرمطة – يريد أنه كتفسير القرامطة من الباطنية – فهذا غير صحيح ، لأن الرجل يقر الظواهر على ظواهرها ، والقرامطة بخلاف ذلك.
وأما ما قاله السبكي من أن السلمى قد اقتصر في حقائقه على تأويلات للصوفية ينبو عنها اللفظ فهذه كلمة حق لا غبار عليها.
وأما قول الواحدي : أنه لو اعتقد أن ما في الحقائق تفسير لكفر باعتقاده هذا فنقول فيه : إن أبا عبدالرحمن لم يعتقد أن هذا تفسير ، وإنما قال : إنه إشارات تخفي وتدق إلا على أربابها ، كما صرح بذلك في مقدمة حقائق التفسير. [93]
وأما قول ابن تيمية : إن ما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر عامته كذب على جعفر، فهذه كلمة حق من ابن تيمية ، إذ أن غالب ما جاء فيه عن جعفر الصادق كله من وضع الشيعة عليه ، ولست أدري كيف اغتر السلمى وهو العالم المحدث بمثل هذه الروايات المختلفة الموضوعة..
C نماذج من تفسير السلمي:
وإذ قد فرغنا من الحديث على حقائق التفسير، فاسمع بعض ما جاء فيه : لتحكم أنت بدورك عليه:
في سورة النساء عند قول الله تعالى في الآية: (66) : } وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ {.. يقول : "قال محمد بن الفضل } اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ{.. بمخالفة هواها } أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم{.. أي أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم } مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ { في العدد ، كثير من المعاني ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة " [94] .
وفي سورة الرعد عند قوله تعالى في الآية : (3) : } وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ { .. يقول : " قال بعضهم : هو الذي بسط الأرض وجعل فيها أوتادا من أوليائه وسادة من عبيده فإليهم الملجأ ، وبهم النجاة ، فمن ضرب في الأرض يقصدهم فاز ونجا ، ومن كان بغيته لغيرهم خاب وخسر . سمعت على بن سعيد يقول : سمعت ابا محمد الحريري يقول : كان في جوار الجنيد إنسان مصاب في خربة ، فلما مات الجنيد وحملنا جنازته حضر الجنازة فلما رجعنا تقدم خطوات وعلا موضعا من الأرض عاليا ، فاستقبلني بوجهه وقال : يا أبا محمد.. إني لراجع إلى تلك الخربة وقد فقدت ذلك السيد ، ثم أنشد شعراً:
وما اسفي من فراق قوم هم المصابيح ، والحصون
والمدن ،والمزن ، والرواسي والخير ، والأمن، والسكون
لم تتغيير لنا الليالي حتى توفتهم المنون
فكل جمر لنا قلوب وكل ماء لنا عيون"[95]
وفي سورة الحج عند قوله تعالى في الآية (63) :
} أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً { .. يقول: " قال بعضهم : أنزل مياه الرحمة من سحائب القربة ، وفتح إلى قلوب عباده عيونا من ماء الرحمة ، فأنبتت فاخضرت بزينة المعرفة ، وأثمرت الإيمان ، وأينعت التوحيد . أضاءت بالمحبة فهامت إلى سيدها، واشتاقت إلى ربها فطارت بهمتها ، وأناخت بين يديه ، وعكفت فأقبلت عليه ، وانقطعت عن الأكوان أجمع ، ذلك آواها الحق إليه ، وفتح لها خزائن أنواره ، وأطلق لها الخيرة في بساتين الأنس ، ورياض الشوق والقدس" [96] .
وفي سورة الرحمن عند قوله تعالى في الآية (11) : } فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ {.. يقول : " قال جعفر : جعل الحق تعالى في قلوب أوليائه رياض أنسه، فغرس فيها أشجار المعرفة ، أصولها ثابتة في أسرارهم ، وفروعها قائمة بالحضرة في المشهد ، فهم يجنون ثمار الأنس في كل أوان ، وهو قوله تعالى : } فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ {. أي ذات الألوان ، كل يجتني منه لونا على قدر سعته ، وما كوشف له من بوادي المعرفة وآثار الولاية" [97] .
وفي سورة الانفطار عند قوله تعالى في الآيتين (13، 14) : } إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ{13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {.. يقول : " قال جعفر : النعيم المعرفة والمشاهدة ، والجحيم النفوس ، فإن لها نيرانا تتقد " [98]} إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ { يقول : " قال ابن عطاء الله : إذا شغلك به عما دونه فقد جاءك الفتح من الله تعالى ، والفتح هو النجاة من السجن البشري بلقاء الله تعالى". .  وفي سورة النصر عند قوله تعالى في أولها :


الخاتمة:
كلمة عامة عن التفسير وألوانه في العصر الحديث :
_ التفسير بين ماضيه وحاضره:
لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله ، والكشف عن معانيه ومراميه، إذ إنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذي جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة ، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية ، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ ، وتلون بألوان مختلفة مرت بك كلها . أو مر بك على التحقيق ما وصلنا إليه في دراستنا وقراءتنا الواسعة المستفيضة.
والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها ، لا يدخله شك في أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق ، فالناحية اللغوية ، والناحية البلاغية ، والناحية الأدبية، والناحية النحوية ، والناحية الفقهية ، والناحية المذهبية ، والناحية الكونية الفلسفية . كل هذه النواحي وغيرها تناولها المفسرون الأول بتوسع ظاهر ملموس ، لم يترك لمن جاء بعدهم – إلى ما قبل عصرنا بقليل – من عمل جديد ، أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي الفوها ، اللهم إلا عملا ضئيلا لا يعدو أن يكون جمعاً لأقوال المتقدمين ، أو شرحا لغامضها ، أو نقداً وتفنيدا لما يعتروه الضعف منها ، أو ترجيحا لرأي على رأي ، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود ، خالية من التجديد والابتكار.
* * *
_ مميزات التفسير في العصر الحديث:
ولقد ظل الأمر على هذا ، وبقى التفسير واقفا عند هذه المرحلة – مرحلة  الركود والجمود – لا يتعداها ، ولا يحاول التخلص منها . حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة ، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى إن يتحرروا من قيد هذا الركود ، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود ، فنظروا في كتاب الله نظرة – وإن كان لها اعتماد كبير على ما دونه في الاوائل في التفسير – أثرت في الاتجاه التفسيري للقرآن تأثيرا لا يسعنا إنكاره ، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية ، التي حشرت في التفسير من القصص الإسرائيلي الذي كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله ، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى ، وإلباس التفسير ثوباً أدبياً اجتماعياً ، يظهر روعة القرآن ، ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية ، والتوفيق بجد بالغ وجهد ظاهر بين القرآن وما جد من نظريات علمية صحيحة ، على تفاوت بين الموفقين في الغلو والاعتدال ، وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون وغير المسلمين أن القرآن هو الكتاب الخالد ، الذي يتمشى مع الزمن في جميع أطواره ومراحله.. وهناك غير هذه الآثار آثار أخرى ظهرت في الاتجاه التفسيري في هذا العصر الحديث ، نشأت عن عوامل مختلفة ، أهمها : التوسع العلمي ، والتأثر بالمذهب والعقيدة ، والإلحاد الذي قام على حرية الرأي الفاسد .
_ الوان التفسير في العصر الحديث :
وعلى ضوء ما تقدم ، نستطيع أن نجمل ألوان التفسير في العصر الحديث في الألوان الأربعة الآتية وهي أهمها :
اولا: اللون العلمي.
ثانيا: اللون المذهبي.
ثالثا: اللون الإلحادي.
رابعا: اللون الأدبي الاجتماعي.
وسأتكلم عن هذه الألوان الأربعة للتفسير في العصر الحديث ، على حسب ترتيبها، وبمقدار ما استفدت من قراءتي في كتب التفسير وما يتصل به من مؤلفات جدت في هذا العصر ، والله ولي التوفيق :
اللون العلمي للتفسير في عصرنا الحاضر
تكلمنا عن التفسير العلمي فيما سبق ، وبينا أن هذا اللون من التفسير كان موضع أخذ ورد بين العلماء الأقدمين ، فمنهم من أيده وقال به ، ومنهم من فنده ومنه منه.
وقلنا : إن التفسير العلمي كان أكثر رواجا وأعظم قبولا لدى المتأخرين ، وأجملنا القول في هذه النقطة الأخيرة ، ووعدناك بالتوسع فيها عندما نعرض لهذه الخاتمة التي نحن بصددها ، ووفاء بوعدي أقول :

_ رواج التفسير العلمي في عصرنا الحاضر:
إن هذا اللون من التفسير – أعني التفسير العلمي الذي يرمي إلى جعل القرآن مشتملا على سائر العلوم ما جد منها وما يجد – قد استشرى أمره في هذا العصر الحديث ، وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم ، وعناية بالقرآن الكريم ، وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية التي تسلطت على قلوب أصحابها ، أن أخرج لنا المشغوفون بها كثيراً من الكتب يحاول أصحابها فيها أن يحملوا القرآن كل علوم الأرض والسماء ، وأن يجعلوه دالا عليها بطريق التصريحأاو التلميح ،اعتقاداً منهم – كما قلنا – أن هذا بيان لناحية من أهم نواحي صدقه ، وإعجازه ، وصلاحيته للبقاء.
_ اهم الكتب التي عنيت بهذا اللون:
ومن أهم هذه الكتب التي ظهرت فيها هذه النزعة التفسيرية كتاب " كشف الاسرار النورانية القرآنية، فيما يتعلق بالأجرام السماوية ، والارضية ، والحيوانات ، والنباتات ، والجواهر المعدنية ، للإمام الفاضل والطبيب البارع ، محمد بن أحمد الإسكندراني من علماء القرن الثالث عشر الهجري ، وهو كتاب كبير الحجم ، يقع في ثلاث مجلدات ، ومطبوع بالمطبعة الوهبية بمصر سنة 1297هـ ومنه نسخة بدار الكتب المصرية .
ورسالة عبدالله باشا فكري في مقارنة بعض مباحث الهيئة ، بالوارد في النصوص الشرعية ، وقد طبعت بالقاهرة سنة 1315هـ.
وبين أيدينا كتاب " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد " لرجل الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد عبدالرحمن الكواكبي . وهو عبارة عن مجموع مقالات له، نشرها في بعض الصحف عندما زار مصر سنة 1318هـ وقد طبع هذا الكتاب وأبهم اسم مؤلفه ورمز له " الرحالة ك ". وفي هذا الكتاب نجد المؤلف – رحمه الله – ينحاز انحيازاً بليغا إلى هذا اللون من ألوان التفسير ، فيصف القرآن بأنه " شمس العلوم وكنز الحكم " [99] ويقرر بأن السر في إحجام العلماء عن تفسير قسمي الآلاء والأخلاق من القرآن ، وبيان ما يشتمل عليه من العلوم المختلفة هو " أنهم كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم فيكفرون فيقتلون " ثم يقول : " وهذه مسألة إعجاز القرآن ، وهي أهم مسألة في الدين ، لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث ، واقتصروا على ما قاله بعض السلف أنها هي فصاحته، وبلاغته ، وإخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون" [100] .
ثم نراه يأخذ في بيان اشتمال القرآن على ما جد من نظريات علمية تؤيد اعجاز القرآن ، فيقول : " انه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات : لرأوا في ألوف من آيات القرآن الوف آيات من الإعجاز... لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان ، تبرهن على إعجازه بصدق قوله تعالى: } وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ {. [101] . برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان ، ومثال ذلك ، أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة ، تعزي لكاشفيها ، ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا ، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن ، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه.
وذلك أنهم كشفوا أن مادة الكون هي الأثير ، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال: } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ {. [102] .
وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة ، والقرآن يقول: } وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا {.. إلى إن يقول : } وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {. [103] .
وحققوا أن الأرض منفتقة من النظام الشمسي والقرآن يقول : } أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا { . [104] .
وحققوا أن القمر منشق من الأرض ، والقرآن يقول : } َوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا{. [105]} اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ {.[106]} خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ {. [107]} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ {. [108] . . وحققوا أنه لولا الجبال لا قتضى الثقل النوعي أن تميد الأرض، أي ترتج في دورتها ، والقرآن يقول : . وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول : . ويقول :
وكشفوا أن التغيير في التركيب الكيماوي بل والمعنوي ناشئ عن تخالف نسبة المقادير ، والقرآن يقول : } وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ{ [109]
وكشفوا أن للجمادات حياة قائمة بماء التبلور ، والقرآن يقول: } وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ {. [110]} وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ  {. [111] . . وحققوا أن العالم العضوي – ومنه الإنسان – ترقى من الجماد ، والقرآن يقول :
وكشفوا ناموس اللقاح العام في النبات ، والقرآن يقول : } خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ {. [112]} فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى {. [113]} اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ {. [114]} وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ {. [115] . . ويقول : . ويقول : . ويقول :
وكشفوا طريقة إمساك الظل ، أي التصوير الشمسي والقرآن يقول: } أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً {. [116] .
وكشفوا تسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء ، والقرآن يقول: " بعد ذكره الدواب والجواري بالريح –  } وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ {. [117] .
وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره كالجدري وغيره من المرض ، والقرآن يقول: } وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ {. [118]} تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ {. [119] . أي من طين المستقنعات اليابس.. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية ، وبالقياس على ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون ، تجديداً لإعجازه ما دام الزمان وما كر الجديدان" [120] . . أي متتابعة مجتمعة:  
وبين أيدينا كتاب " اعجاز القرآن " للمرحوم مصطفى صادق الرافعي ، وهو من أنصار هذه النزعة التفسيرية ومن المؤيدين لها ، وفي هذا الكتاب نجد المؤلف – رحمه الله – يعقد بحثا خاصا لموضوع " القرآن والعلوم " وفيه يقرر أن القرآن " بآثاره النامية ، معجزة اصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض ، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله "  [121]} رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ {. [122] . وقال : فإن عدد " رَفِيعُ ".. بحساب الجمل ثلاثمائة وستون ، وهي عدد درج الليل والنهار". ثم يقول الرافعي نفسه بعد هذا : " واذا اطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور، وتواريخها ، وأسرارها ، ولولا أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث" [123] . ثم يستطرد إلى ذكر بعض ما نقله السيوطي في الإتقان والإكليل عن العلامة المرسي في اشتمال القرآن على سائر العلوم ، وهنا نجده يعلق استخراج علم المواقيت من القرآن فيقول : " قال بعض المتأخرين : إن الميقات مشار إليه في القرآن بقوله تعالى:
ثم نرى الرافعي – رحمه الله – يسترسل في حديثه إلى أن يقول. "وقد استخرج بعض علمائنا من القرآن ما يشير إلى مستحدثات الاختراع ، وما يحقق بعض غوامض العلوم الطبيعية ، وبسطوا كل ذلك بسطاً ليس هو من غرضنا فنستقصى فيه.[124]} سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {. [125]} فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ {.. هذه آفاق ، وهذه آفاق أخرى ، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شئ" [126] . ولو جمعت أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: على أن هذا ومثله إنما يكون فيه إشارة ولمحة ، ولعل متحققا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن ، وأحكم النظر فيه ، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم ، ولايلتوي عليه أمره ، لاستخرج منه إشارات كثيرة تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها ، وتدل عليها وإن لم تمسها بأسمائها"  ثم يقول : " وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفا، وذلك قوله تعالى:
كذلك نجد المرحوم الدكتور عبدالعزيز اسماعيل ، الطبيب المعروف ينحاز إلى هذا اللون من ألوان التفسير في كتابه " الإسلام والطب الحديث " الذي جمع فيه مقالاته التي نشرها في مجلة الأزهر . وبين أيديها هذا الكتاب ، وهو مطبوع بمطبعة الاعتماد سنة 1357هـ وفيه نجد المؤلف رحمه الله يقرر أن القرآن " ليس بكتاب طب أو هندسة أو فلك ، ولكنه يشير أحيانا إلى سنن طبيعية ترجع الى هذه العلوم"[127] كما يقرر ان كثيرا من آيات القرآن "لا يفهم شيئا من معناها الحقيقي إلا من درس العلوم الحديثة " [128] ، كما يؤكد أن العلم الحديث " كشف عن معنى بعض الآيات، وسينكشف الباقي منها كلما تقدمت العلوم ، ثم يأتي وقت يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين" [129] .
وفي هذا كما ترى اتهام للصحابة ومن جاء بعدهم من سلف الأمة بأنهم لم يفهموا المعاني الحقيقية لبعض الآيات القرآنية ، لجهلهم بهذه العلوم المستحدثة وهذا اتهام نعيذ منه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلف الأمة رضوان الله عليهم.
وإذا نحن تتبعنا ما في هذا الكتاب لوجدنا الكثير منه لا يقصده القرآن ، ولا يهدف إليه من وراء خطابه للعرب الأمية.
فمثلا نجده يعرض لقوله تعالى في الآية (22) من سورة البقرة : } َأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ {.. تحت عنوان: "الحياة تحت ضوء القرآن".
وفيه يقول : "... هذه الآية الكريمة معناها – والله اعلم – ( وتأمل قوله معناها ) أن اللحوم والأسماك والألبان ... الخ أفضل في التغذية من البقول والقمح والذرة ، وليست الأفضلية في مقدار المواد الزلالية الضرورية للجسم في كل نوع ، لأن هذا يجب أن لا يكون سببا مهما للأفضلية..." ثم يعقد مقارنة بين بعض الأغذية وما فيها من نسبة المواد الزلالية . ثم يقول : "وقد اهتدت أخيراً لجنة الأبحاث بإنجلترا إلى أن قيمة المواد الزلالية تختلف في نوعها ، وفي المقدار منها الذي يمنع المواد الزلالية المكونة للأنسجة من أن تحترق ، ورأوا أن اللحوم بالنسبة للمواد الزلالية ونوعها لها قيمة أكثر من اللبن والذرة مثل البيان التالي :
لحوم
لبن البقر
ارز
بطاطس
فول
دقيق
ذرة
104
100
88
79
70
40
30

ثم يقول : " إن هذه النتيجة التي لخصها القرآن الشريف – واعجب لقوله : لخصها القرآن الشريف – لم تظهر حقيقة ثابتة إلا منذ سنوات قليلة.." [130] .
وغير هذا كثير في كتاب " الإسلام والطب الحديث " مما لا نصدق أنه مراد الله من خطابه للعرب بالقرآن ، وإن كان لا يتعارض – كما قلنا – مع ما ثبت من ذلك علميا وتحققت صحته.
هذا ،وإن أعظم علماء العصر الحديث تشيعا للنزعة التفسيرية العلمية ، وأكثرهم إنتاجا لهذا التفسير العلمي ، هو المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري ، إذ أنه على حسب ما رأينا أكثر من جمع في هذا وأطال في تفسيره "الجواهر" الذي يقع في خمسة وعشرين جزءا كبارا ، والمطبوع بمصر سنة 1341- 1351هـ ولهذا أرى أن أتكلم عنه بما يكشف عن طريقة مؤلفه ومنهجه الذي سلكه فيه.
* * *
الجواهر في
تفسيرالقرآن الكريم
]للشيخ طنطاوي جوهري [131][
Q الدوافع التي حملت المؤلف على كتابة هذا التفسير:
خلق الفيلسوف الإسلامي المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري – كما يقول هو عن نفسه – : " مغرماً بالعجائب الكونية معجباً بالبدائع الطبيعية ، مشوقاً إلى ما في السماء من جمال ، وما في الأرض من بهاء ، وكمال " ثم كان منه – كما يقول – أنه لما تأمل الأمة الاسلامية وتعاليمها الدينية ، ألفى أكثر العقلاء وبعض أجلة العلماء عن تلك المعاني معرضين ، وعن التفرج عليها ساهين لاهين ، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودع فيها من الغرائب ، فدفعه ذلك إلى أن ألف كتباً كثيرة مزج فيها الآيات القرآنية بالعجائب الكونية ، وجعل آيات الوحي مطابقة لعجائب الصنع ، وحكم الخلق ، وكان من أهم هذه الكتب كتاب "نظام العالم والأمم" و "جواهر العلوم" و "التاج المرصع" و "جمال العالم" و "النظام والإسلام" و"الأمة وحياتها" ولكنه وجد أن هذه الكتب – رغم كثرتها ، وانتشارها ، وترجمتها إلى اللغات الاجنبية – لم تشف غليله ، فتوجه إلى ذي العزة والجلال ، أن يوفقه إلى ان يفسر القرآن تفسيراً ينطوي على كل ما وصل إليه البشر من علوم ، فاستجاب الله دعاءه ، وتم له ما أراد .
*******
Q متى وكيف شرع المؤلف في كتابة هذا التفسير:
ابتدأ المؤلف هذا التفسير أيام أن كان مدرساً بمدرسة دار العلوم ، فكان يلقي تفسير بعض آيات على طلبتها ، وبعضها كان يكتب في مجلة الملاجئ العباسية ، ثم وإلى سيره في التفسير حتى أخرج لنا هذه الموسوعة الكبيرة.
******
Q غرض المؤلف من تفسيره:
ولقد أمل المؤلف – رحمه الله – من وراء هذا التفسير – كما يقول – " أن يشرح الله به قلوباً ، ويهدي به أمماً، وتنقشع به الغشاوة عن أعين عامة المسلمين ، فيفهموا العلوم الكونية " وقال : "وإني لعلى رجاء أن يؤيد الله هذه الأمة بهذا الدين ، وينسج على منوال هذا التفسير المسلمون ، وليقرأن في مشارق الأرض ومغاربها مقرونا بالقبول ، وليولعن بالعجائب السماوية والبدائع الأرضية الشبان الموحدون ، وليرفعن الله مدنيتهم إلى العلا ، وليكونن داعياً حثيثا إلى درس العوالم العلوية والسفلية ، وليقومن من هذه الأمة من يفوقون الفرنجة في الزراعة والطب ، والمعادن ، والحساب ، والهندسة ، والفلك ، وغيرها من العلوم والصناعات ".
******
Q مسلك المؤلف في تفسيره:
ولقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام ، والأخلاق ، وعجائب الكون ، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق ، مما يشوق المسلمين والمسلمات – كما يقول – إلى الوقوف على حقائق معاني الآيات البينات في الحيوان والنبات ، والأرض والسموات.
هذا.. وإن المؤلف – رحمه الله – ليقرر في تفسيره أن في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية ، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية ، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأمم كثيرة ، وأن سور القرآن متممات لأمور أظهرها العلم الحديث" [132] .
وكثيراً ما نجد المؤلف – رحمه الله – في تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون ، ويحثهم على العمل بما فيها ، ويندد بمن يغفل هذه الآيات على كثرتها ، وينعي على من أغفلها من السابقين الأولين ، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأمور العقيدة.
نجد المؤلف يكرر هذه النغمة في كثير من مواضع الكتاب فيقول في موضع منه: " يا أمة الإسلام .. آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعا من علم الرياضيات ، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدينا كلها .. هذا زمان  العلوم ، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه ، ياليت شعري .. لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث ؟ ولكني أقول : الحمد لله .. الحمد لله ، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم ، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض ، لأنه فرض كفاية ، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهي فرض عين على كل قادر.. إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن ، هي التي أغفلها الجهلاء المغروريين من صغار الفقهاء في الإسلام ، فهذا زمان الانقلاب ، وظهور الحقائق ، والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم". [133]
ويقول في موضع آخر: "إن نظام التعليم الإسلامي لابد من ارتقائه ، فعلوم البلاغة ليست هي نهاية علوم القرآن ، بل هي علوم لفظه ، وما نكتبه اليوم علوم معناه ، وانطباقها على العلوم التي أظهرها الله في الارض ، ولعل هذا الزمان سيظهر فيه آثار من قوله تعالى : } ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ {. [134] . فإن البيان المذكور في سورة القيامة فسر بمعنى أننا نبينه بلسانك فتقرأه كما أقرأك جبريل ، بمعنى أنه إذا أشكل شئ من معانيه فنحن نبينه لك ، وعلينا بيان ما فيه من الأحكام والعجائب ولا جرم أن ما يتجدد اليوم من العلوم مما ذكر في هذا التفسير وما لم يذكر ، من البيان الذي أكد الله أنه يظهره لأمة الإسلام ، فالحمد لله الذي وفق في هذا التفسير لبعض العرفان تصديقا لما ذكر الله من أن عليه البيان" [135] .
ويقول في موضع آخر: ".. لماذا ألف علماء الإسلام عشرات الألوف من الكتب الإسلامية في علم الفقه. . وعلم الفقه ليس له في القرآن إلا آيات قلائل لا تصل مائة وخمسين آية ؟ فلماذا كثر التأليف في علم الفقه ، وقل جداً في علوم الكائنات التي لا تخلو منها سورة ؟ بل هي تبلغ سبعمائة وخمسين آية صريحة ، وهناك آيات أخرى دلالتها تقرب من الصراحة . فهل يجوز في عقل أو شرع أن يبرع المسلمون في علم آيات قليلة ، ويجهلوا علما آياته كثيرة جداً ؟ إن آباءنا برعوا في الفقه، فلنبرع نحن الآن في علم الكائنات .. لنقم به لترقى الأمة [136] ".
******
Q لم يلقى تفسير الجواهر قبولا لدى كثير من المثقفين:
هذه المقالات – وغيرها كثير في تفسير الجواهر – نجد أغلبها قد صدر من المؤلف في مقام الرد على من كان يوجه إليه اللوم والاعتراض على ما كان منه من تحميل القرآن الكريم علوماً ونظريات مستحدثة لا عهد للعرب بها ، ولا صلة للقرآن بشئ منها .
ويظهر لمن يتصفح هذا التفسير أن المؤلف – رحمه الله – لاقى الكثير من لوم العلماء على مسلكه الذي سلكه في تفسيره ، مما يدل على أن هذه النزعة التفسيرية لم تلق قبولا لدى كثير من المثقفين .
* * *
Q مصادرة المملكة السعودية لتفسير الجواهر:
ولعلم هذا المنزع في تفسير القرآن الكريم هو السر الذي من أجله صادرت المملكة العربية السعودية هذا الكتاب ، ولم تسمح بدخوله إلى بلادها ، كما يجد القارئ ذلك في نص الكتاب المرسل من المؤلف إلى الملك عبدالعزيز آل سعود ، ملك نجد والحجاز ص 238 من الجزء الخامس والعشرين.
* * *
Q طريقة المؤلف في هذا التفسير:
هذا وإنى – بعد أن قرأت الكثير في هذا التفسير – أستطيع أن أعطيك صورة واضحة عن منهج المؤلف وطريقته التي سلكها فيه ، وذلك أن المؤلف رحمه الله يفسر الآيات القرآنية تفسيراً لفظياً مختصراً ، لا يكاد يخرج عما في كتب التفسير المألوفة لنا والمتداولة بين أيدينا ، ولكنه سرعان ما يخلص من هذا التفسير الذي يسميه لفظياً، ويدخل في أبحاث علمية مستفيضة يسميها هو لطائف أو جواهر.. هذه الأبحاث عبارة عن مجموعة كبيرة من أفكار علماء الشرق والغرب في العصر الحديث ، أتى بها المؤلف ، ليبين للمسلمين ولغير المسلمين أن القرآن الكريم قد سبق إلى هذه الأبحاث ونبه على تلك العلوم قبل أن يصل إليها هؤلاء العلماء بقرون متطاولة.
ثم إننا نجد المؤلف – رحمه الله – يضع لنا تفسيره هذا كثيراً من صور النباتات ، والحيوانات ، ومناظر الطبيعة ، وتجارب العلوم ، بقصد أن يوضح للقارئ ما يقول توضيحا يجعل الحقيقة أمامه كالأمر المشاهد المحسوس.
كذلك نجد المؤلف – رحمه الله – يشتشهد أحيانا على ما يقول بما جاء في الإنجيل ، واعتماده فيما ينقل على إنجيل "برنابا" لأنه – كما يرى – أصح الأناجيل ، بل هو الإنجيل الوحيد الذي لم تصل إليه يد التحريف والتبديل كما قيل.
وكثيراً ما نرى المؤلف – رحمه الله – يشرح بعض الحقائق الدينية بما جاء عن أفلاطون في جمهوريته ، أو بما جاء عن إخوان الصفا في رسائلهم، وهو حين ينقلها يبدي لنا رضاه عنها، وتصديقه بها، مع أنها تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أنه يستخرج كثيراً من علوم القرآن بواسطة حساب الجمل الذي لا نصدق أنه يوصل إلى حقيقة ثابتة ، وإنما هي عدوى تسربت من اليهود إلى المسلمين ، فتسلطت على عقول الكثير منهم.
هذا .. ونا لنجد المؤلف – رحمه الله – يفسر آيات القرآن تفسيراً علميا يقوم على نظريات حديثة ، وعلوم جديدة ، لم يكن للعرب عهد بها من قبل ، ولست أرى هذا المسلك في التفسير إلا ضرباً من التكلف ، إن لم يذهب بغرض القرآن ، فلا أقل من أن يذهب بجلاله وجماله.
وإليك بعض ما جاء في هذا التفسير :
Q نماذج من هذا التفسير :
فمثلا ، عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (61) من سورة البقرة: } وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ{... الآية ، نجده يقول : " الفوائد الطبية في هذه الآية" ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب ، ثم يقول: " أو ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن ؟ أو ليس قوله } أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ{ رمزاً لذلك ؟ كأنه يقول : العيشة البدوية على المن والسلوى .. وهما الطعامات الخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما ، مع الهواء النقي والحياة الحرة ، أفضل من حياة شقية في المدن بأكل التوابل ، واللحم ، والإكثار من ألوان الطعام ، مع الذلة ، وجور الحكام ، والجبن ، وطمع الجيران من الممالك ، فتختطفكم على حين غفلة وأنتم لا تشعرون . بمثل هذا تفسر هذه الآيات . بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله" [137] .
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآيات (67) وما بعدها من سورة البقرة: } وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً {.. الآيات إلى آخر القصة ، نجده يعقد بحثاً في عجائب القرآن وغرائبه ، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب ، ويذكر فيما يذكرعلم تحضير الأرواح فيقول : ".. وأما علم تحضير الأوراح فإنه من هذه الآية استخراجه ، إن هذه الآية تتلى ، والمسلمو يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولا ، ثم بسائر أوروبا ثانياً ".. ثم ذكر نبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم ، وفائدة هذا العلم ، ثم قال أخيراً : "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته ، وكذلك حماره ، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل ، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الطاعون ، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك ، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة ، كأنه يقول :إذا قراتم ما جاء عن بني إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإنى قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة ، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، ولكن ليكن المحضر ذا قلب نقي خالص على قدم الأنبياء والمرسلين ، كالعزيز ، وإبراهيم، وموسى ، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة ، وأنا امرت نبيكم أن يقتدي بهم فقلت: "فبهداهم اقتده"..
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران " الم" نجده يعقد بحثا طويلا عنوانه: "الاسرار الكيميائية ، في الحروف الهجائية ، للأمم الاسلامية ، في اوائل السور القرآنية" وفيه يقول : " انظر رعاك الله – تأمل – يقول الله : "أ.ل.م" ، "طس"، "حم" .. وهكذا يقول لنا : أيها الناس ، إن الحروف الهجائية ، إليها تحلل الكلمات اللغوية ، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية ، سواء أكانت اللغة العربية أم اللغات الأعجمية ، شرقية وغربية ، فلا صرف ، ولا إملاء ، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها ، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها ، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.
ولا جرم أن العلوم قسمان : لغوية وغير لغوية ، فالعلوم اللغوية مقدمة في التعليم ، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية ، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها ، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها الماديية والمعنوية ؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أصولها الأولية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات ، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها ، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم" [138] .
ومثلا نراه يعرض لقوله تعالى في الآية (24) من سورة النور: } يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {..
وقوله في الآيات (20-22) من سورة فصلت : } حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{21} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ {..
وقوله في الآية (65) من سورة يس: } الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ { ثم يقول : ".. أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام ، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا الحاضرة ، هو نفس الذي صرح به القرآن ، وإذا كان الله يعلم ما في البواطن بل هو القائل للإنسان : } كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً { . [139]} بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ { . [140] . أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبينات المشهورة عند المسلمين ؟ وأن هناك ما هو أفضل منها ؟.. وهي التي يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدي فيها أسرار، وفي الأرجل أسرار ، وفي النفوس أسرار : فالأيدي لا تشتبه ، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أو ليس في الحق أن أقول : إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه ؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها" [141] . . والقائل :
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآيتين (5 ،6) من سورة طه: } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى{5} لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى{ .. نجده يقول : ".. قوله : "وما بينهما".. دخل في ذلك عوالم  السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى " الآثار العلوية " وهو من علوم الطبيعة قديماً وحديثاً . وقوله : " وما تحت الثرى " يشير لعلمين لم يعرفا إلا في زماننا ، وهما علم طبقات الارض ، المتقدم مرارا في هذا التفسير ، وعلم الآثار ، المتقدم بعضه في سورة يونس ... فالله هنا يقول : " وما تحت الثرى ".. ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى" [142] .
ومثلا عند قوله تعالى في الآية (30 ) من سورة الأنبياء : } أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً {.. الآية، يقول: " ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين ، من أن السموات والأرض أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم ، كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى ، وقلنا : إن هذه معجزة ، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور، ألا ترى أن كثيراً من المفسريين قالوا : إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم . فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به في نفس هذه الآية ، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الامور لم تخلق . وقد أخذ العلماء يؤولون تأويلات شتى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله ، وها نحن أدلاء نجد هذه العلوم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة ، كما نطق القرآن هنا ، كأنه يقول : سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: } أَتَى أَمْرُ اللّهِ{. [143] . وهذه معجزة تامة للقرآن وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا". [144] .

ومثلا عند قوله تعالى في الآية (15) من سورة الرحمن: } وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ { .. نجده يقول: ".... والمارج المختلط بعضه ببعض ، فيكون اللهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات ، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللهب مختلطات ، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه . فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة ، وإلى أن اللهب مضطرب دائما ، وإنما خلق الجن من ذلك المارج المضطرب ، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل ، تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة ، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة". [145] .
وعند قوله تعالى في الآية (35) من السورة نفسها: } يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ {.. يقول : ".. إنه عبر هنا بشواظ من نار وفيما تقدم بقوله : } مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ { والشواظ والمارج كلاهم اللهب الخالص ، فلماذا جعل الجان مخلوقاً من مارج ولم يقل من شواظ ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم . وقد أبنت ذلك هناك ، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم في علم الأرواح ، وأيضاً اختلاط الألوان الآن معروف في التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تعرف قط إلا في زماننا هذا ، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط ، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة ، لم يكن إلا في زماننا ، وهذا من أعاجيب القرآن التي لا تدرك إلا بقراءة العلوم ، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف ، فلا أصحاب المعلقات يدركونها ، ولا الذين بعدهم يعلمونها ، فهل لمثل امرئ القيس ، أو لأبي العلاء ، أو المتنبي أن يتناولوا هذه المعاني في أقوالهم ؟ كلا... فهذه بلاغة لا تخطر ببالهم ، وأنى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج ؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ". [146]
ومثلا في سورة الزلزلة نجده يفسرها تفسيراً لفظياً مختصراً ، ثم يذكر ما فيها من لطائف ، مستعرضا ما وقع من حوادث الزلزال في إيطاليا ، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض ، وما كثر في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض ، مثل ما كشف في مصر من آثار قدمائها ، ثم يقول – بعد ما يفيض في هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة – وإن كانت واردة لأحوال الآخرة – تشير من طرف خفي إلى ما ذكرنا في الدنيا ؟ فالأرض الآن كأنها في حال زلزلة ، وقد أخرجت أثقالها ، كنوزها وموتاها وغيرها ، والناس الآن يتساءلون ، وها هم أولاء يلهمون الاختراع ، وهاهم أولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها ، وكل إنسان في عمله الخاص به وينتفع به". [147]
ومثلا نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر ، وسورة الكافرون ، وسورة النصر ، يذكر لنا بحثاً مستفيضا عنوانه : " تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما " وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يحمل نصوص الشارع من المعاني الرمزية ما يستبعد أن يكون مراداً لها ، وذلك أنه يقرر أولا أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة ، ولا بفتح مكة ونصر جيشها ، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور في أول عمرها ، وسيطول إن شاء الله ، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات
ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب ، وورثة النبي الذي جاء منا صلى الله عليه وسلم ، ولغتنا في مصر، والشام ، والعراق ، وشمال إفرقيا ، هي لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها ، خوفا من أهل زمانهم ، ولكنا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره ، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة ، وقسطها من الإصلاح".
ثم اخذ يبين لنا الكوثر ، وأوصاف كيزانه ، وطيره ، وأوصاف من سيرد عليه من المسلمين ، بما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ثم قال – بعد هذا كله - : " اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون ، كم أمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون ، فماذا فعلوا ؟ القوا إليهم العلم بهيئة جميلة ، وصورة مفرحة ، وبهجة وجمال ، ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة، جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال ، والحكمة ، والعلم، ورقي الأمة بهيئة تسر الجمهور".
ثم يقول : "الجاهل يسمع الدر والياقوت وشرابا أحلى من العسل ، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللذات التي تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول : إن هذا القول وراء حكمة ووراءه علم ، لأني إرى في خلال القول عجائب . فلماذا يذكر أن الكيزان أوالأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء ! وأي دخل لنجوم السماء هنا ؟ ولماذا عبر به" ؟ .. ثم يقول : " لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء ؟ ولم ؟ .. ولم ؟ .. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين : أمراً واضحاً جليا يفرح به جميع الناس ، وأمراً يختص بالقواد والعظماء.
إن النبوة بأمر الله ، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع ، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً ، وكل لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل ، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية . هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه ، ويردونه معهم كما يردونه ، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قواد الأمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يريد معاني أرقى ، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شئ هناك . ثم إن الجنة لا ظمأ فيها. وأي شئ عدد نجوم السماء؟ ولماذا اختصت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله : إن الحوض يرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره ، فلا المسك الإذفر، ولا أنواع الجواهر النفيسة من در وياقوت ، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء ، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج ، العذبة المشارب ، السارة للناظرين.." ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظ أطلق وأريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي ، ثم يقول – بعد بيان هذه الكناية – ".. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكفارين ، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون ، هنا يكون نصر الله والفتح ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجا . وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها ، ورأوا المسلمين تقدموا ونصروا العلم على الجهل في العالم الإنساني ، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم رحمة للعالمين ، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا ، وهو الفتح ، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه " [148] .الخ.
هذا هو تفسير الجواهر ، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.
والكتاب – كما ترى – موسوعة علمية ، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر ، مما جعل هذا التفسير يوصف بما وصف به تفسير الفخرالرازي ، فقيل عنه: " فيه كل شئ إلا التفسير " بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دل الكتاب على شئ ، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيرا ما يسبح في ملكوت السموات والارض بفكره ، ويطوف في نواح شتى من العلم بعقله وقلبه ، ليجلي للناس آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم ، ثم ليظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمنا لكل ما جاء ويجئ به الإنسان من علوم ونظريات ، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث ، تحقيقا لقول الله تعالى في كتابه : } مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ {. [149] . ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده ، وانحراف به عن هدفه ، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.
* * *
Q انكار بعض العلماء المعاصرين لهذا اللون من التفسير:
لم يقف العلماء في العصر موقف الإجماع على قبول هذا اللون من التفسير، بل نراهم مختلفين في قبوله والقول به ، كما كان الشأن بين من سبقهم من العلماء الأقدمين..
وإذا كنا قد وجدنا من العلماء المحدثين من انحاز إلى هذه الفكرة في التفسير وتأثر بها في مؤلفاته ، فإنا نجد بجوار هؤلاء أيضاً كثرة من العلماء لم ترض عن هذا اللون من التفسير، ولم تستسغ أن تشرح به كتاب الله تعالى ، ولم تغمض عينها أو تمسك قلمها عن رد هذه الفكرة على أهلها وتناولهم إياها بالنقد والتفنيد.
نجد هذه المعارضة في كثير من المحاورات والاعتراضات التي وجهت إلى صاحب الجواهر ، وذكرها لنا في تفسيره.
كما نجد بعض أساتذتنا المعاصرين ينعون على من يأخذ بهذه الفكرة ويقول بها ، ومن بين هؤلاء أساتذنا الشيخ محمود شلتوت . فقد تناول هذا الموضوع بالبحث في العدد (407 ، 408) من السنة التاسعة لمجلة الرسالة – إبريل سنة 1941 – وفيه يرد على من يذهب إلى هذا اللون من التفسير بحجج قوية واضحة.
وهذا هو الأستاذ الشيخ أمين الخولي يتناول هذا الموضوع في كتابه " التفسير: معالم حياته . منهجه اليوم " وفيه يرد على أنصار هذا المذهب في التفسير بحجج قوية واضحة ، استفدنا منها كثيراً في تأييد ما اخترنا من المذهبين .
وهذا هو المرحوم السيد محمد رشيد رضا . نجده في مقدمة تفسيره ينعي على من تأثروا في تفسيرهم بنزعاتهم العلمية ، فشغلوا تفاسيرهم بمباحث النحو، والفقه، ونكت المعاني ، والبيان ، والاسرائيليات ، وغير ذلك ، وبعد هذا صارفا يصرف الناس عن القرآن وهديه ، ثم ينعي على الفخر الرازي ما أورده في تفسيره من العلوم الحادثة في الملة ، ويعد هذا صارفا يصرف الإنسان عن القرآن وهديه ، كما يتوجه بمثل هذا اللوم على من قلد الفخر الرازي في مسلكه من المعاصرين ، وأظنه أراد صاحب الجواهر، وذلك حيث يقول: "... وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن ، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، وقلده بعض المعاصرين بإيراد مثل هذا من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة ، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة – بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والارض – من علوم الفلك والنبات والحيوان ، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن". [150]
وأخيراً فهذا هو شيخنا العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي – رحمه الله رحمة واسعة – نجده في تقريظه لكتاب " الإسلام والطب الحديث " لا يرضى عن هذا المسلك في التفسير، رغم أنه مدح الكتاب وأشاد بمجهود مؤلفه ، وذلك حيث يقول : " لست أريد من هذا – يعني ثناءه على الكتاب ومؤلفه – أن أقول : إن الكتاب الكريم اشتمل على جميع العلوم جملة وتفصيلا بالأسلوب التعليمي المعروف ، وإنما أريد أن أقول إنه أتى بأصول عامة لكل ما يهم الإنسان معرفته به ، ليبلغ درجة الكمال جسداً وروحاً ، وترك الباب مفتوحاً لأهل الذكر من المشتغلين بالعلوم المختلفة ، ليبينوا للناس جزئياتها بقدر ما أوتوا منها في الزمان الذي هم عائشون فيه" [151] .
وفي موضع آخر يقول : " يجب أن لا نجر الآية إلى العلوم كي نفسرها، ولا العلوم إلى الآية : ولكن إن اتفق ظاهر الآية مع حقيقة علمية ثابتة فسرناها بها" [152] .
ومن هذا كله يتبين أن التفسير العلمي في العصر الحديث إن كان قد لقى قبولا ورواجا عند بعض العلماء ، فإنه لم يلق مث هذا القبول والرواج عند كثير منهم ، وقد علمت فيما سبق أي الرأيين أقرب إلى الحق وأحرى بالقبول .
* * *


اللون المذهبي للتفسير في عصرنا الحاضر
لم يبق من الفرق المنسوبة الى الإسلام في هذا العصر الحديث من له كيان ، أو شئ من الكيان – حسبما نعلم – الا أهل السنة ، والإمامية الإثنا عشرية ، والإمامية الإسماعيلية ، والزيدية ، والإباضية من الخوارج ، والبهائية من الباطنية.. هذه هي الفرق التي لا تزال في اعتبارنا قائمة إلى يومنا هذا ، محتفظة بتعاليمها وعقائدها التي تسير عليها من أول عهدها ومبدأ ظهورها.
وإذا كنا قد وقفنا لكل فرقة من هذه الفرق في عصورها السابقة على عمل ظاهر في تفسير كتاب الله ، وشرحه على حسب ما تمليه عقيدة المفسر، وما يوحي به إليه، فإنا لا نعدم هذا اللون المذهبي لتفسير القرآن الكريم في هذا العصر الحديث ، ولكن بمقدار ما بقى من هذه المذاهب قائماً إلى هذا العصر الذي تتكلم عنه ، ونتحدث عن ألوان التفسير فيه.
نعم.. بقى اللون المذهبي لتفسير القرآن الكريم قائماً في هذا العصر الحديث ، بمقدار ما بقى قائماً من المذاهب الإسلامية.
فأهل السنة فسروا القرآن ، وألفوا الكتب فيه بما يتفق وعقيدتهم ، كما نرى ذلك واضحا فيما خلفته لنا مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده من كتب في التفسير.
والإمامية الإثنا عشرية فسروا القرآن وألفوا الكتب فيه بما يتمشى مع مذهبهم ، ويتفق مع أهوائهم ومشاربهم ، ومن أحدث كتبهم التي اطلعنا عليها في التفسير: كتاب: "بيان السعادة في مقامات العبادة" للشيخ سلطان محمد الخراساني ، من أهل القرن  الرابع عشر الهجري ، وقد سبق لنا الكلام عنه مفصلا ، وكتاب " آلاء الرحمن في تفسير القرآن " للشيخ محمد جواد النجفي ، المتوفي سنة 1352هـ وقد سبق الكلام عنه بإيجاز عند الكلام على أهم كتب التفسير عند الإمامية الإثنى عشرية.
والإباضية من الخوارج فسروا القرآن وألفوا فيه الكتب بما يناسب عقيدتهم ، ويساير مذهبهم ، كما نجد ذلك في كتاب "هميان الزاد ، إلى دار المعاد " للشيخ محمد بن يوسف إطفيش ، المتوفي سنة 1332 وقد مر الكلام عنه أيضاً.
والبهائية من الباطنية نظروا إلى القرآن من خلال عقيدتهم ، فأولوا وحرفوا ، كما نجد ذلك جليا في رسائل أبي الفضائل الجرفادقاني ، أحد رجال البهائية في هذا العصر.
أما الزيدية ، فهي وإن كانت لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ، إلا أنا لم نقف لها على شئ في التفسير في هذا العصر الحديث .
وأما المعتزلة ، فنحن وإن كنا لا نسمع عن قيامها في هذا العصر كفرقة لها كيان ، ووحدة ، ومقومات ، إلا أنا نرى أثراً كبيراً لتعاليمها في تفسير القرآن في العصر الحديث ، كما يظهر ذلك جليا في تفاسير الإمامية الإثنى عشرية، والإباضية ، ومقالات بعض المحدثين من المفسرين.
كل هذه الفرق الموجودة في هذا العصر، أضفت على التفسير لونا مذهبياً، يقوم على تأييد العقيدة ، وخدمتها على حساب القرآن الكريم ، ولا أريد أن أطيل بذكر نماذج من هذا اللون التفسيري ، إذ قد سبق لنا الكلام عن هذه الكتب التي ذكرتها ، وذكرت لك منها ما يعطيك صورة واضحة عن اللون المذهبي في هذا العصر.

* * *
اللون الالحادي للتفسير في عصرنا الحاضر
منى الإسلام من زمن بعيد بأناس يكيدون له، ويعملون على هدمه بكل ما يستطيعون من وسائل الكيد ، وطرق الهدم ، وكان من أهم الأبواب التي طرقوها ليصلوا منها إلى نواياهم السيئة : تأويلهم للقرآن الكريم على وجوه غير صحيحة، تتنافى مع ما في القرآن من هداية ، وتناقض ما هو عليه من محجة بيضاء، وتهدف إلى ما سولته لهم نفوسهم من نحل خاسرة وأهواء!!
منى الإسلام بهذا من أيامه الأولى ، ومنى بمثل هذا في أحدث عصوره، فظهر في هذا العصر أشخاص يتأولون القرآن على غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم ، ويقضي حاجات في نفوسهم ، فأدخلوا في تفسير القرآن آراء سخيفة، ومزاعم منبوذة ، تقبلها بعض المخدوعين من العامة وأشباه العامة ورفضها بكل إباء من حفظ الله عليهم دينهم وعقولهم.
* * *



Q الباعث على هذا اللون من التفسير:
اندفع هؤلاء النفر من المؤولة إلى ما ذهبوا إليه من أفهام زائفة في القرآن بعوامل مختلفة ، فمنهم من حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله سبب لظهوره وشهرته، فأخذ يثور على قدماء المفسرين ويرميهم جميعاً بالسفه والغفلة ثم طلع على الناس بجديده في تفسير كتاب الله ... جديد لا تقره لغة القرآن ، ولا يقوم على أصل من الدين .
ومنهم من تلقى من العلم حظاً يسيراً ، ونصيباً قليلا، لا يرقى به إلى مصاف العلماء ، ولكنه اغتر بما لديه ، فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين في العلم ، ونسى أنه قل في علم اللغة نصيبه، وخف في علم الشريعة وزنه ، فراح ينظر في كتاب الله نظرة حرة لا تتقيد بأي أصل من أصول التفسير، ثم أخذ يهذي بأفهام فاسدة ، تتنافى مع ما قرره أئمة اللغة وأئمة الدين ، ولأول نظرة يتضح لمن يطلع عليها أنها لا تستند إلى حجة ، ولا تتكئ على دليل.
ومنهم من لم يرسم لنفسه نحلة دينية ، ولم يسر على عقيدة معروفة، ولكنه لعبت برأسه الغواية، وتسلطت على قلبه وعقله أفكار وآراء من نحل مختلفة ، فانطلق إلى القرآن وهو يحمل في قلبه ورأسه هذه الأمشاج من الآراء ، فأخذ يؤوله بما يتفق معها ، تأويلا لا يقرره العقل ولا يرضاه الدين.
هؤلاء جميعا خاضوا في القرآن على عماية ، فلم يراعوا في فهمه قوانين البلاغة ، ولم يدخلوا إلى تفسيره من باب السنة الصحيحة ، وحسبوا أنهم أرضوا ضمائرهم ، وأنصفوا البحث الحر، والرأي الطليق.
ولولا أن الله قيض لهذا الدين رجالا يدرسونه ببصائر تنفذ إلى لبابه، ويدفعهم الإيمان والإخلاص إلى أن يبعدوا عنه هذه الخبائث ، التي يراد أن تلصق به أو تنزل في رحابه.. لولا هذا لأصاب المسلمين من هؤلاء المضللين شر مستطير ، ولنتج عن أفكارهم وأهوائهم فتنة في الأرض وفساد كبير.
وأنا إذ أعرض لهذا اللون من التفسير، لا أريد أن أذكر أحداً من أصحابه باسمه ولقبه، إذ ربما كان هذا سببا للفتنة ، وباعثاً على العداوة ، وكثير منهم أحياء يرزقون ، ويكفي أن أضع يد القارئ على المراجع التي أنقل عنها تفسير هؤلاء القوم ، وآراءهم في القرآن الكريم ، وهي مراجع ميسورة لكل من يريد أن يرجع إليها ويطلع عليها.
وجدنا من أصحاب هذا اللون من الوان التفسير، رجلا يكتب بحثاً طويلا تحت عنوان : " القرآن والمفسرين " وفيه يعرض لنواحي التقصير في تفسير كافة المفسرين لكتاب الله تعالى ، ويحمل عليهم حملة شديدة نكراء ، ويوجه إليهم جميعاً نقده الساخر، ولومه اللاذع ، بدون أن يستثنى منهم مفسراً واحداً على كثرتهم ، وكثرة المعتدلين منهم .
رأيناه يتهم المفسرين جميعاً بأنهم تأثروا في تفاسيرهم بعقائدهم ، فأمالوا آيات القرآن نحو آرائهم ، في تعسف ظاهر ، وتكلف غير مقبول [153]} وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ{41} ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ{42} وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ{43} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ {.. ، ورآيناه يرميهم جميعاً بأنهم كثيراً ما يكتنفون بذكر إسرائيليات ليس لها سند أصلا ، فضلا عن طمعهم في تصحيح هذه الأسانيد المكذوبة ، ونراه يذكر لهذا الاتهام الأخير مثلا من أقوالهم في تفسير قصة أيوب عليه السلام ، ثم يأخذ في تفنيد ما ذهبوا إليه ، وإبطال ما قالوا به، بأدلة كثيرة ذكرها، وبعد هذا كله تناول هو قوله تعالى في الآيات (41-44) من سورة (ص): 
تناول الكاتب هذه الآيات ، فشرحها شرحا يخالف ما ذهب إليه المفسرون جميعاً ، مدعيا أن ما ذهب إليه هو الذي يساير كل ما ورد من آيات القصص في القرآن ، ومؤكداً أنه هو الذي يتفق مع بلاغة القرآن ، وقدسية الأنبياء ، فقال : " يجب أن ننظر في الآية نظرة أخرى – يعني خلاف ما عليه المفسرون تساير بها نظائرها من آيات القصص ونحن إذا التفتنا إلى ما في هذه الآية من أن أيوب عليه السلام قد عزى النصب والعذاب للشيطان فقال : " مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ {.. كان ذلك مانعا كل المنع من أن يراد بالنصب والعذاب داء أصاب أيوب ، وكان من نتائجه ما ذكره المفسرون .. إذ الشيطان لا يملك للإنسان إلا أن ينزغه ، ويوسوس إليه ، فيلويه عن الخير إلى الشر، وعن العزم في سبيل الغاية إلى التردد والهزيمة ، وإنه ما من نبي ولا رسول إلا وقد نزل به هذا المصاب.. مصاب إعراض الناس واستوائهم بالدعوة والداعين ، وصد الشيطان لهم عن سبيل الله :
 } وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ {.. الآية، [154]} وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ {. [155]} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً {.[156]. .وقوله تعالى : وما كانت شكوى الأنبياء إلا من إعراض أممهم عن الاستجابة ، ولا كان حزنهم الذي كان يبلغ أحياناً حد الإهلاك للنفس إلا لبطء في سير الدعوة إلى الله تعالى انظر قوله تعالى :
ولما كانت الشكوى تشعر بوهن في العزيمة ، وضعف في الثقة،وعدم القوة في ;السير إلى الغاية ، كان جواب تلك الشكاية أن قيل له : } ارْكُضْ بِرِجْلِكَ { فالمراد بالركض هنا، عقد العزيمة وتأكيدها ، واستتمام الثقة وإكمالها، والمضاء بقوة وبغير تردد ولا توان إلى الغاية ، فهي كناية من أعذب الكنايات وأروعها ، وهي من وادي – شمر عن ساعد الجد . شمر عن ساقيك – غير أنها أوفر منها صياغة وترفعا . إذ من المعروف المشاهد أن السائر إلى جهة بغير تردد ، بل بقوة وعزيمة ، ترى لرجليه ضربا ، وتسمع لقديمه على الأرض وقعا. ولما كان تردد المرء في غايته ، ووهن عزيمته إليها. وضعف ثقته بها ، صدأ يغشى الأرواح ، ومرضا يتعب النفوس ويضايق الصدور، كان عقد العزيمة واستكمال الثقة غسلا للروح من صدئها ، وشفاءاً للنفس من مرضها ، ونقعا لغلة الصدور، لذلك قال الله لرسوله أيوب } هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ {.. والآية كما ترى ليس فيها مرجع لاسم الإشارة إلا الركض المفهوم من قوله " ارْكُضْ " المكني به عن توثيق العزم ، والأخذ بالحزم ، كما هو مقتضى النظم الكريم ، الجاري لقواعد اللغة ، التي تأبى أن يكون لاسم الإشارة مرجع غير هذا من الماء والعين ، كما يقتضيه تفسير المفسرين ، إذ ليس في النظم ما يدل عليهما بأي وجه من وجوه الدلالة . ولما كان أيوب عليه السلام اعتباره رسولا لابد أن يأتمر في إخلاص الأنبياء بأمر ربه، بين الله ثمرة جهاده وصبره، ومضاء عزمه، فقال : } وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ  {.. أي هدينا له أهله فآمنوا به واستجابوا لدعوته ، وهدينا له مثلهم من غير أهله ، فليس المراد بالهبة هنا هبة الخلق والإيجاد ، بل هبة الهداية والإرشاد ، بدليل تعبيره بالأهل دون التعبير بالذرية والولد ، كما في قوله تعالى : } وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً  {.[157] . إذ كل ما يهتم له الأنبياء إنما هو أن يهدي الله بهم ، لا أن يولد لهم . ولم يتحدث القرآن عن هبة يحيي لزكريا، وإسحاق لإبراهيم إلا لأن هبة الإيجاد فيهما قد تضمنت أمرين عظيمين:
الأول : أنه قد ولد لإبراهيم ولزكريا عن كبر وشيخوخة ويأس وقنوط.
والثاني: أن الموهوب لكل منهما رسول لا ولد عادي..
فموضع المنة في هذا : كونهما رسولين لا كونهما ولدين".
"ثم بين الله بعد ذلك سيرة أيوب التي أمره أن يسير بها في قومه، وهي اللين في القول، والرفق في الدعوة، والعظة بالحسنى، وتلك هي الخطة التي رسمها الله لجميع أنبيائه، انظر كيف يقول لموسى وهارون: } اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى{43} فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى { [158]} وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ { [159]} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {. [160]} وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ {.. أي لا ترفع في وجوه قومك رمحا ولا عصا، ولا تغلظ لهم القول، ولا تخشانهم في الطلب ، بل لوح في وجوههم بالرياحين والأزهار ، ولا تأثم بالغلظة والجفوة ، فإنك بخفض الجناح والجدال بالتي هي أحسن تبلغ منهم ما لا تبلغه بالسيف ، والعصا ، والخشونة ، والغلظة ، فانظر إلى ما في الآية من كناية ما أجملها وأعلاها ، وما أخصبها وأرواها، وانظر كم تعطيك على هذا الوجه من فنون البلاغة ، وكم تمنحك من جزالة في الأسلوب ، ثم هم – يريد المفسرين – بعد ذلك يمسخونها ويشوهونها ، فيجعلونها منقطعة عما قبلها ، وما بعدها ، فتقلق في مرقدها ، وتنبو في مضجعها ، إذ يجعلونها متوقفة في فهمها على معونة أجنبية من الكلام الذي هي فيه ، وذلك من أدعى الدواعي لانحطاط الكلام عن المستوى العالي لكلام البشر، فضلا عن مستوى الإعجاز الذي يجب أن يكون عليه القرآن الكريم". . وبين الله ذلك فقال : ، ويقول لرسوله الكريم:
"هذا ما رأيت أن تؤول به تلك الآيات، استناداً إلى ما جرى عليه قصص القرآن ، وتحامياً لما يترتب على ما فسر به المفسرون تلك الآيات من خدش قدس أيوب عليه السلام ، باعتباره نبيا رسولا ، ومن منافاة ذلك لحكمته السامية ، وتفاديا من أن يحدثنا القرآن عن أمر عادي ، وهو أن شخصا مرض ثم دعا ربه فشفاه من مرضه... ذلك الحدث الذي لا يتحدث به عظيم من الناس فضلا عن الله تعالى، ولا يحدث به عن رجل عادي فضلا عن أيوب الرسول الكريم". [161]
هذا هو التفسير الصحيح في نظر صاحبه ، وأحسب أن القارئ الكريم سوف لا يتردد في الحكم عليه بأنه تفسير منابذ لبلاغة القرآن ، ومخالف لظاهره الذي عرف منذ عهد الصحابة والتابعين ، وأي شئ يقف في سبيل المعنى الظاهر حتى نعدل عنه إلى مجاز أو كناية فيها تعسف ظاهر وتكلف غير مقبول ؟ اللهم لا شئ إلا دعوى التجديد ، والثورة على القديم ، والعمل على هدم آراء العلماء الذين عرف الناس مبلغ خدماتهم للعلم ، ودفاعهم عن الدين.
ولا أطيل بذكر ما أفند به هذا الرأي الشاذ وما يحمله من دعاوي غير صحيحة على المفسرين جميعا، فقد سبقني إلى هذا أحد أستاذتي الأجلاء ، ولست ببالغ مبلغه من العلم ، ولا بآت بأكثر مما أتى به في الرد على صاحب هذا الرأي. [162]
ووجدنا من أصحاب هذا اللون رجلا آخر دفعه حب التجديد المزيف إلى أن يساير روح الإلمحاد ويجاري من يتهمون الشريعة الإسلامية بالقسوة في أحكامها وحدودها ، فراح يتأول آيات الحدود بما يوافق هواه وهوى أصحابه ، فحمل الأمر فيها على الإباحة .. وجعل الأمر في ذلك مفوضا إلى رأي ولي الأمر وحده ، وهو وإن كان قد استعمل الأسلوب اللولبي فيما أبداه ، وطرح الموضوع الذي عالجه في صورة سؤال ألقاه شخص خالي الذهن ليتعرف وجه الحق في المسألة ، هو وإن كان قد فعل ذلك مفضوح أمره فصدر المقال يكشف لنا عن نية صاحبه ، ويفيدنا بكل صراحة أن الكاتب يريد أن يتأول آيات الحدود بحمل الأوامر الواردة فيها على الإباحة ، وإليك ما جاء في هذه المقالة لتقف على حقيقة الأمر، ولتعرف نية الكاتب وما يهدف إليه في مقاله.
قال هذا الكتاب تحت عنوان "التشريع المصري وصلته بالفقه الاسلامي" : "قرأت في السياسة الأسبوعية الغراء مقالا بهذا العنوان. [163]} وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{38} فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ { . [164]} الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ {. [165]} َا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {. [166] . فلا يكون قطع يد السارق حدا مفروضاً ، لا يجوز العدول عنه في جميع حالات السرقة ، بل يكون القطع في السرقة هو أقصى عقوبة فيها ، ويجوز العدول عنه في بعض الحالات إلى عقوبات أخرى رادعة . ويكون شأنه في ذلك شأن كل المباحات التي تخضع لتصرفات ولي الأمر، وتقبل التأثر بظروف كل زمان ومكان . وهكذا في حد الزنا سواء أكان رجما أم جلدا ، مع مراعاة أن الرجم في الزنا لا يقول به فقهاء الخوارج ، لعدم النص عليه في القرآن الكريم ، وهل لنا أن نذلل بهذا عقبة من العقبات التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الاسلامي، مع أنا في هذه الحالة لا نكون قد أبطلنا نصا ولا ألغينا حداً ، وإنما وسعنا الأمر توسيعاً يليق بما امتازت به الشريعة الإسلامية من المرونة والصلاحية لكل زمان ومكان ، وبما عرف عنها من إيثار التيسير على التعسير، والتخفيف على التشديد". [167] . فهل لنا أن نجتهد في الأمر الوارد في حد السرقة وهو قوله تعالى " فاقطعوا ".. والأمر الوارد في حد الزنا وهو قوله تعالى " فاجلدوا " .. فنجعل كلا منهما للإباحة لا للوجوب ، ويكون الأمر فيهما مثل الأمر في قوله تعالى : . وقوله تعالى في حد الزنا : . حوى أفكاراً أثارت في نفسي من الرأي ما كنت أريد أن أرجئه إلى حين ، فإن النفوس لم تتهيأ بعد لفتح باب الاجتهاد ، حتى إذا ظهر المجتهد في هذا العصر برأي جديد ، كتلك الآراء التي كان يذهب إليها الأئمة المجتهدون في عصور الاجتهاد ، قابلها الناس بمثل ما كانت تقابل به تلك الآراء من الهدوء والسكون ، وإن بدا عليها ما بدا من الغرابة والشذوذ ، لأن الناس في تلك العصور كانوا يألفون الاجتهاد وكانوا يألفون شذوذه وخطأه ، إلفهم لصوابه وتوفيقه ، أما في هذا العصر ، فإن الناس قد بعد بهم العهد بالاجتهاد ، حتى صار كل جديد يظهر فيه شاذا في نظرهم ، وإن كان في الواقع صواباً، وما أسرعهم في ذلك إلى التشنيع والطعن في الدين ، والمحاربة في الرزق ، فلا يجد من يرى شيئاً من ذلك إلا أن يكتمه أو يظهره بين أخصائه ، ممن يأمن شرهم ولا يخاف كيدهم ، وتضيع بهذا على الأمة آراء نافعة في دينها ودنياها ، ولكني سأقدم على ما كنت أريد إخفاءه من ذلك إلى حين ، وسأجتهد ما أمكنني في أن لا أدع لأحد مجالا في ذلك التشنيع الذي يقف عقبة في سبيل كل جديد".. ثم أشاد بما كتبه صاحب المقال المشار إليه ثم قال : " ولكن يبقى بعد هذا في تلك الحدود ذلك الأمر الذي سنثيره فيها ، ليبحث في هدوء وسكون . فقد نصل فيه إلى تذليل تلك العقبة التي تقوم في سبيل الأخذ بالتشريع الإسلامي من ناحية تلك الحدود بوجه آخر جديد... وسيكون هذا بإعادة النظر في النصوص التي وردت فيها تلك الحدود ، لبحثها من جديد بعد هذه الأحداث الطارئة ، وسأقتصر في ذلك – الآن – على ذكر ما ورد في تلك الحدود من النصوص القرآنية ، وذلك قوله تعالى في حد السرقة :
فأنت ترى من هذا المقال مقدار ما وصل إليه الكاتب من الجرأة على كتاب الله ، إذ أول آية السرقة وآية الزنا تأويلا غير مقبول بأي حال من الأحوال ، ومن ينظر إلى آية السرقة وآية الزنا لا يفهم منهما إلا أن الأمر فيهما للوجوب ، فليس لأحد أن يعدل عنه مطلقا ، وذلك الأمر في قوله تعالى :" فاقطعوا ".. وقوله : " فاجلدوا ".. وارد في الوجوب القاطع ، فإن بناء الأمر بالقطع في آية السرقة على قوله: "والسارق والسارقة".. وبناء الأمر بالجلد في آية الزنا على قوله : " الزانية والزاني ".. يصرفه عن احتمال الإباحة إلى الوجوب ، وهذا لأن تعليق الحكم على شخص ، موصوف بوصف يؤذن بأن المقتضى للحكم هو ذلك الوصف الذي قام بالشخص ، وإذا كان ذلك الوصف جناية مثل السرقة والزنا ووضع الشارع لهما حكما في صيغة الأمر ولم يذكر حكما غيره ، لا يصح إن يقال : ان هذا الأمر محتمل للإباحة كما احتملها الأمر في قوله : " خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ".. الآية.
ثم إن قوله تعالى في آية السرقة : " جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ ".. وقوله في آية الزنا : " وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ".. وقوله: " وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ".. يؤكد أن الأمر في الآيتين للوجوب لا للإباحة.
ثم إن هناك من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية ما يؤكد كون الأمر للوجوب في الآيتين.
فهل يجوز للكاتب بعد هذا كله أن يتهجم على آيات الحدود بمعول ذلك التأويل الذي تنكره اللغة . ولا تقره السنة ولا يتفق وحكمة التشريع ؟ اللهم إن هذا التأويل لا يجوز، ولهذا فإنه لم يصادف غفلة من عقول العلماء وأقلامهم ، فقام كثير منهم بالرد على صاحبه، وتفنيد ما ذهب إليه [168]، ولقد تنبه القائمون على أمر الأزهر حينئذ إلى خطر هذا الرأي وما يجره على الدين من بلاء ، فجوزي صاحب المقال على ما كان منه جزاء إن كان بسيطا في حد ذاته ، فهو يدل على أن أفكار الكاتب لم تلق قبولا ولم تجد رواجا في محيط العلماء .
ووجدنا غير هذا وذاك من تأثر ببعض الآراء الفلسفية فراح ينكر بعض الحقائق الدينية الثابتة ، ويتأول ما ورد منها في القرآن بما يتمشى مع مذاهب الفلاسفة ، فأنكر حقيقة الشيطان ، وتأول ما جاء من لفظ الشيطان في قوله تعالى في الآية (117) من سورة النساء: } إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً {.. فقال ما نصه : "..والمعنى أن هؤلاء لم يجيبوا حين أشركوا بالله داعي العقل أو داعي الفطرة ، وإنما أجابوا نزعات الشر المنبثة في العالم على مقتضى سنة الله من الابتلاء بعوامل الخير وعوامل الشر ، فهم بذلك يتبعون قوة خفية أطلق عليها كلمة " شيطان " جريا على عادة العرب المألوفة ، وإذ كانوا يتصرون قوى الشر شياطين تتحدث وتناجي وتغري وتدفع إلى ما تريد ".. ثم قال : هذا هو الشيطان الذي يلبي المشرك باشراكه أمره ، ويتخذه وليا يأمره وينهاه". [169]
ومن موضع آخر نجد  [170] صاحب هذا الرأي يعود اليه فيؤكده ، ولست أدري ماذا يفعل في سياق الآية . وفي القرائن التي احتفت بها ، والصفات التي انتظمتها مما يؤكد أن المراد هو إبليس ، ذلك الكائن الخارجي المستقل المستتر عن أعين الناس ، كما لا أدري كيف يفعل بالأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والتي تقرر أن الشيطان حقيقة لها وجود خارجي.
وأنكر بعضهم وجود عالم الجن ، وتأول ما جاء من ذلك صريحا في آيات القرآن الكريم ، ففسر قوله تعالى في أول سورة الجن: } قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ {.. الآية، بأن الجن قبيلة من العرب.
وهذا تأويل ينافي صريح القرآن في مواضع كثيرة ، فضلا عن أنه لا يقوم على دليل يصححه.
ووجدنا غير هؤلاء جميعاً رجلا نكس على رأسه ، فطوعت له نفسه أن يخوض في تفسير كتاب الله على ما به من غواية وعماية ، وأخيراً طلع على الناس بكتاب مختصر في تفسير القرآن الكريم ، تفسيراً جمع فيه الكثير من وساوسه وأوهامه ، ثم سول له الغرور أن يسميه : " الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
أحدث هذا التفسير ضجة كبرى في المحيط العلمي ، وقام رجال الأزهر وقعدوا من أجله ، ثم ألفت لجنة من بعض العلماء لتنظر في هذا الكتاب ، ثم لتحكم عليه بما ترى فيه ، ثم رفعت اللجنة تقريرها لشيخ الأزهر إذ ذالك ، وفيه تفنيد لآراء الرجل وحكم عليه بأنه "أفاك خراص ، اشتهى أن يُعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه ، ليستنفر الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته".
ثم صودر الكتاب واختفى عن أعين الناس } فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ {. [171]
قرآت ما جاء في تقرير اللجنة الأزهرية ، ولكنني أردت أن أطلع على الكتاب نفسه ، فعملت كل ما أستطيع حتى استصدرت تصريحاً من دار الكتب المصرية بالاطلاع على هذا الكتاب الذي منع من التداول بين الناس.
* * *
_ حملته على جميع المفسرين:
جاءني الكتاب وقرآت فيه ، فوجدت مؤلفه قد قدم له بمقدمة عاب فيها المفسرين وكتب التفسير جميعا فقال : " وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير إنك لا تجد أصلا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة ، لهدمه وتبديله ، والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث لا يشعرون" [172] .
* * *
_  طريقته في التفسير:
ثم قال بعد ذلك : " فهذا كله – يعني الدس والحشو في التفاسير – دعاني إلي تفسيري ، وأن تكون طريقتي فيه كشف الآية وألفاظها بما ورد في موضوعها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضع القرآن ، ويكون القرآن هو الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع ، وقد اخترت أن تكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله ، وليمكن الباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها فيقرأ ماسبقها وما لحقها من الآيات ليكون على علم تام وهداية واعظة" [173] .
ولعل القارئ الكريم يلحظ كما ألحظ أن المؤلف يرمي من وراء قوله
".. ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله . ولا يحتاج إلى شئ من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع " أنه يريد أن يهدر صلة السنة بالقرآن الكريم ، وينفي أن منزلتها منه منزلة المبين من المبين. والله تعالى يقول : } وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ{..
ويظهر لنا أن المؤلف قد ركب رأسه فراح يهدم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يعترف بما لها من مكانة في تفسير القرآن الكريم ، فقال مقالته السابقة، كما أنه راح يهدم ما للسنة من المكانة في التشريع الإسلامي فقال في قوله تعالى في الآية (63) من سورة النور : } فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ  {.. يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره ، وأما التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها بل هي من حكمة الشورى".[174]} وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا {..[175] ولغير هذا من الآيات التي وردت في وجوب طاعته عليه السلام وهي كثيرة. ثم أي مصلحة تخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟.. فأنت ترى أنه يجيز مخالفة أمر الرسول للمصلحة ، وهذا عناد ومكابرة ومخالفة صريحة لقوله تعالى :
هذا ولا أريد أن أطيل بذكر ما جاء في هذا الكتاب من أباطيل وأضاليل ويكفي أن أذكر طرفاً مما حواه من ذلك ليتبين القارئ أن الرجل " جامد على المحسوسات ، جاحد لكثير مما أخبر به القرآن ، منكر لأحكام قررها القرآن والسنة وأجمع عليها الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم".
***
_ انكاره لمعجزات الأنبياء عليهم السلام:
وقف هذا الرجل من معجزات الأنبياء عليهم السلام موقفاً شاذاً غريبا ، يقوم على إنكارها وجحدها والذهاب بها – عن طرييق التأويل الفاسد – إلى أن تكون من قبيل الممكن الذي يدخل تحت مقدور كل إنسان رسول أو غير رسول ، وهو يصرح بهذا في كثير من المواضع ، فيقول في بعض المواضع : " وبعد هذا تعلم أن ا لله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته غير ما في سيرته ورسالته " [176] وفي موضع آخر يقول : "واعلم أن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سننه في خلقه وكونه" [177] وفي موضع ثالث يقول : "وقد كانت كل آياتهم حججاً وبراهين من سيرتهم ورسالتهم [178] . فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها ، فتكون هناك علاقة بين الدعوة ودليلها فتدبر " [179] وفي موضع رابع يقول: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم ، وصلاح رسالتهم ، وأنهم لا يأتون بغير المعقول ، ولا بما يبدل سنته ونظامه في كونه". [180]
على هذا الأساس تناول الرجل آيات المعجزات فخرج بها عن مدلولها الحقيقي الذي أراده الله تعالى.

_  موقفه من معجزات عيسى عليه السلام:
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (49) من سورة آل عمران في شأن عيسى عليه السلام : } أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {.. نجده يقول ما نصه : " كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ " .. يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره " الأكْمَهَ ".. من ليس عنده نظر ، "الأَبْرَصَ".. المتلون بما يشوه الفطرة ، فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطبية ؟ أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي والفكري بالهداية الدينية ؟ " فِي بُيُوتِكُمْ ".. يعلمهم التدبير المنزلي. [181]
وإذا كان المؤلف قد تردد في معنى إبراء الأكمه والأبرص هنا بين تكميل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة ، وبين تكميل التكوين الروحي بالهداية الدينية ، فإنه ليس تردد الشاك في أي الأمرين كان ، وإنما هو تردد يبدو منه في صراحة ووضوح ميله إلى أن المراد هو التكوين الروحي لا غير ، وإنك لتجده يصرح في موضع آخر بأن المراد هو تكميل التكوين الروحي بالهداية الدينية ، وذلك عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (110) من سورة المائدة: } وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي { من هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل ليشفي نفوسهم ، ويحيي موت قلوبهم ، فآيته في دعوته وسيرته وهدايته ، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته ، فلم يكن خارقا في سنته ، ولما ممتازا بما يدعو ألوهيته وعبادته". [182]
كذلك تجده ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد وذلك حيث يؤول قوله تعالى في الآية (46) من سورة آل عمران : " وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً {. ما نصه : "في المهد : في دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا ، علامة على الجرأة وقوة الاستعداد في الصغر ، وكهلا : علامة على أنه لا يفل عزمه بالشيخوخة والكبر – ويصح أن يكون المعنى يكلم الناس الصغير منهم والكبير علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه". [183]
وتأول ايضا قوله تعالى في الآية (29) من سورة مريم: } فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {.. فقال : " أي كان ذاك النهار ولداً صغيراً فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم فهذا ابن حرام". [184]
ولما رأى أن قوله تعالى قبل ذلك في الآيية (27) : } فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ { .. لا يتفق مع تأويله السابق تأوله أيضاً فقال : " تحمله على ما يحمل عليه المسافر ، ومنه تفهم أنه كان في سياحة طويلة". [185]
 ***
_ موقفه من معجزات موسى عليه السلام:
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (160) من سورة الاعراف } وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً {.. قال : " ويصح أن يكون الحجر اسم مكان ، واضرب بعصاك الحجر: معناه : اطرقه واذهب إليه ، والغرض أن الله هداه إلى محل الماء وعيونه". [186]
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (63) من سورة الشعراء: } َأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {.. قال ما نصه: " الْبَحْرَ " الماء الواسع " اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ " . اطرقه واذهب اليه " فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ " .. هذا بيان لحالة البحر ، يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة ، راجع (160) في الأعراف ، ثم راجع طه في (77 ، 78) ولتعرف كيف اهتدى إلى طريق يبس مر منه ، واقرأ استعمال الضرب في السير في قصة أيوب في (ص) . [187]
وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى في الآيتين (107 ، 108) } فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ{107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ {.. يقول : " مثال من قوة حجته وظهور برهانه". [188]
وعند قوله تعالى في الآيات (118 ، 122) من نفس السورة : } فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { إلى قوله : } رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {.. يقول : يصور لنا كيف كشفت حجته تزييف حجتهم حتى سلموا له وآمنوا به". [189]
***
_ موقفه من معجزة ابراهيم عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (69) من سورة الانبياء: } قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ { الخ ، نجده ينكر أن يكون إبراهيم عليه السلام قد ألقى في النار وخرج منها سالما ، وذلك حيث يؤول الآية بما يخالف الظاهر فيقول : "معناه نجاه من الوقوع فيها – راجع (64) في المائدة و (26) في النحل ، وترى في الآية وباقي القصة أن الله نجاه بالهجرة وخيب تدبيرهم". [190]
***
_ موقفه من معجزات داوود عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (79) من سورة الأنبياء : } وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ {.. يقول : " يُسَبِّحْنَ " . يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داوود في صناعتها الحربية " وَالطَّيْرَ ". يطلق على ذي الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية".[191]
***
_ موقفه من معجزات سليمان عليه السلام:
وعندما عرض لقوله تعالى في الآية (81) من سورة الانبياء: } وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا {  .. نجده يقول: " تَجْرِي بِأَمْرِهِ " .. الآن تجري بأمر الدول الاوروبية وإشارتها ، في التلغرافات والتليفونات الهوائية . اقرأ سبأ".[192]
وفي سورة النمل عند قوله تعالى في الآية (16): } وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ{.. يقول : " مَنطِقَ الطَّيْرِ ".. كل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه وماذا يريد ، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها". [193]
وفي قوله تعالى في الآية (18) من السورة نفسها: } حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ { نجده يقول: " نَمْلَةٌ " : قبيلة ، " النَّمْلِ " : قبائل الوادي ". [194]
وفي قوله بعد ذلك في الآية (20) من السورة أيضا: } وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ {.. نجده يقول : " الْهُدْهُدَ " : اسم طائر فهل يكون من ذوي الجناحين؟ ويكون كلامه كناية عما يحمل من رسائل؟ أم من الخيالة ؟ السواري ؟ أو الطيارين الآخرين ؟ راجع الأنبياء. [195]
وفي قوله بعد ذلك في الآيات من (38-43) من السورة نفسها : } قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ{38} قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ{39} قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ{40} قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ{41} فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ {.. في هذه الآيات نراه يقول: " بِعَرْشِهَا ".. بملكها ، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول في البلاد ، فطلب الخريطة التي فيها مملكة سبأ ليهاجمها ويريها أنه جاد غير هازل : " عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ ".. أحد القواد.. ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذي " عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ". من الكتابة والرسم والتخطيط ، " قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ".. الغرض أنه يأتي به حالا وقد أتى به ، ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوما ، ولو كان عهد الفوتوغرافيا قديماً لصح أن يكون ذلك الرسم بها ، وترى أن سليمان يشكر الله على ما في المملكة من العلماء العاملين في كل فن ، ونأخذ من القصة أن الله يعظم شأن العلم ويدعونا إلى التمسك بالأسباب الكونية لتشييد الملك وإقامة الدولة " وَأُوتِينَا الْعِلْمَ ".. يؤيد لك أن المسألة علمية " مُسْلِمِينَ ".. مناقدين لله ، يعني أنهم جمعوا بين العلم والتربية على الخلق العظيم ، وهذا أحسن حافظ لنظام الملك وعزة الدولة". [196]
***
_ موقفه من معجزة الاسراء:
وعندما تعرض لقوله تعالى في أول سورة الإسراء : } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {.. نجده يقول : " أَسْرَى ".. الإسراء يستعمل في هجرة الانبياء .. انظر (77) في طه و (138) في الأعراف ، و (52) في الشعراء و (23) في الدخان و (81) في هود و (65) في الحج ، ثم تدبر آخر النحل وعلاقته بالإسراء : " الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ".. الذي له حرمة يحترم بها عند جميع الناس (127) و (218) في البقرة و (25) في الحج " الْمَسْجِدِ الأَقْصَى " .. الأبعد ، مسجد المدينة .. وقد بارك الله حوله ، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة ، وكان بالإسراء الفتح والنصر فكان ذلك من آيات الله انظر (20) يس و (108) التوبة ثم ارجع إلى الإسراء فاقرأ الى (60 ، 93). [197]
***
_ انكاره للملائكة والجن والشياطين:
كذلك نجد صاحب هذا الكتاب يؤول الملائكة ، والجن ، والشياطين ، بما لا يتفق والحقائق الشرعية الثابتة.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (34) من سورة البقرة : } وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {.. نجده يقول : "الملائكة" .. رسل النظام وعالم السنن ، وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له ، راجع (29) ثم انظر الملك في (15) " إِبْلِيسَ " .. اسم لكل مستكبر على الحق ، ويتبعه لفظ الشيطان والجان ، وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره". [198]
وعند قوله تعالى في الآية (71) من سورة الأنعام : } قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ {.. الآية ، نجده يقول " الشَّيَاطِينُ ".. تطلق على الحيات والثعابين ، تستهوى من يتبعها ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها راجع (275) في البقرة". [199]
وعند قوله تعالى في الآيتين (26 ، 27) من سورة الحجر: } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{26} وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ {.. يقول: " يمثل لك بوصف الإنسان ، النوع الهاديء صاحب الطبع الطيني الذي تشكله كما تريد " وَالْجَآنَّ " .. النوع المتشرد صابح الطبع الناري ، إذا قاربته يؤذيك ويغويك، ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله ، والنوعان موجودان في كل أمة ، فتدبر السياق من أول السورة ، وراجع القصة في البقرة ". [200]
وعند قوله تعالى في الآية (17) من سورة النمل : } وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ {.. يقول : " الْجِنِّ ".. يطلق على العالم الخفي والظاهر القوى ، وجن كل شئ أوله ومقدمته، وجن الجيش قواده ورؤساؤه " وَالْإِنسِ " .. طائعوه ومرءوسوه اقرأ الجن ". [201]
وعند قوله تعالى في الآية (158) من سورة الصافات } وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ {.. يقول: "الجنة او الجن : سادتهم وكبراؤهم". [202]
وعند قوله تعالى في الآيتين (37 ،38) من سورة ( ص ): } وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ{37} وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ {.. نجده يقول : "الشَّيَاطِينَ". يطلقون على الصناع الماهرين والأشقياء المجرمين: " مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ".. مسلوكين في القيود ، ومنها تفهم أن سليمان كان يشغل المسجونين من أصحاب الصناعات للانتفاع بهم". [203]
***
_ انكاره لأحكام من الدين لم ينازع فيها احد من المجتهدين:
ولقد سولت للمؤلف نفسه أن يتأول بعض آيات الأحكام على غير ما أراد الله ، وعلى مقتضى هواه الذي لا يخضع لقواعد اللغة ولا لأصول الشريعة!!
_ حد السرقة:
فمثلا عند قوله في الآية (38) من سورة المائدة : } وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا { الآية ، يقول : "واعلم ان لفظ السارق والسارقة يعطي معنى التعود . أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملازمة لهم ، ويظهر لك من هذا المعنى : أن من سرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده ، لأن قطعها فيه تعجيز له ، ولا يكون ذلك إلا بعد اليأس من علاجه". [204]..
_ حد الزنا:
وعند قوله تعالى في الآية (2) من سورة النور : } الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ{.. الآية ، نجده يقول : " الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي " .. يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كان معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخلقهما ، فهما بذلك يستحقان الجلد". [205]
_ تعدد الزوجات:
في الآية (3) من سورة النساء : } وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ {.. الآية ، نجده يقول : " مِّنَ النِّسَاء ".. نساء اليتامى الذين فيهم الكلام – هكذا بالأصل – لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن ، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التي يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضرراً على المجتمع من تركه ، لتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق " وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ "، "فان خفتم الا تعدلوا".. [206]
فهو يريد أن يبيح تعدد الزوجات إلا إذا كن يتامى في حجره ، وأمن من نفسه عدم الجور ، ولم يقل أحد بالشرط الأول مطلقا ، ومن يطلع على سبب النزول يعلم خطأ من يشترط هذا الشرط في التعدد .
_ التسري:
وعند قوله تعالى في الآية السابقة } فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ {.. نجده يقول : انظر الآية (25) إلى (28) من النساء [207]} وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ {.. يقول : " فيه عناية بالخادمات ، وتسهيل لمن يريدون الزواج ، ولا يستطيعون النفقات على ذوات البيوتات ، انظر (33) في النور (60 ) في الكهف ثم (30، 36، 42، 63 ) في يوسف "العنت" الحرج : انظر (220) في البقرة و (7) في الحجرات و (128) في التوبة و (118) في آل عمران . وفي هذه الآية رد على الذين يتخذون ملك اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات ، بحجة أنهن مشتريات بالمال ، أو أسيرات بالحرب ، فليس في الإسلام عرض امرأة يباح بغير الزواج ، مملوكة كانت أو مالكة ، فتدبر ذلك في الآيات". [208] وفي الآية (25) وهي قوله تعالى :
وفي قوله تعالى في الآيتين (5 ،6) من سورة المؤمنون : } وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{29} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ { .. الآية ، يقول : "اقرأ المعارج ، والنور ، واوائل البقرة ". [209]
ثم قال في المعارج عند قوله تعالى في الآيتين (29 ، 30) : } وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ{29} إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ {.. ما نصه : " أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ " .. من الخدم ، فإن لهم ما ليس لغيرهم، فقد يكون في الإنسان فروج أي عيوب ونقائص يسيئه أن يراها الناس فيه ، ولكن لا يسيئه أن يراها خدمه ". [210]
فأنت ترى من هذا أنه يحرم التسري ، ويفسر الفروج بالعيوب ، وهذا بعد عن قوانين اللغة ، ومبادئ الشريعة.



_ الربا:
كذلك نجد المؤلف يميل إلى أن الربا المحرم شرعا هو الفاحش فقط ، ولهذا نراه عندما يعرض لآيات الربا في سورة البقرة يفسر "الربا" فيقول: "الربا هو الزيادة من الربح في رأس المال ، وهو معروف ومقيد بالآية (130) في آل عمران ، فانظرها أولا " [211]} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً{ .. ثم يقول بعد ذلك : " وَذَرُواْ مَا بَقِيَ " .. [212] وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ " [214] فَلَهُ مَا سَلَفَ " .[215]} قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ {.. . انظر (38 ) في الأنفال " [216]. يريد قوله تعالى : كل ذلك يفيدك أن الكلام في المعاملة الحاضرة ، ويبشر من يتوب بأنه لا يحاسب على ما كسبه من قبل " " فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ " [213] " يريد قوله تعالى :
ثم قال بعد ذلك عندما عرض لقوله تعالى في الآية (130) من سوررة ال عمران : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { : " الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً ".. أي الربا الفاحش وبمعنى آ خر : الربح الزائد عن حده في رأس المال . وتقدره كل أمة بعرفها . راجع في جزائه أواخر البقرة ، وقصة اليهود في أواخر النساء ، ثم ارجع إلى (5) في النساء و (43) .[217]
_ زكاة الزروع :
كذلك نجد المؤلف يذهب في زكاة الزروع مذهبا لم يقل به أحد من المجتهدين فضلا عن أنه يصادم ما جاء من السنة الصحيحة في بيان المقدار الواجب في زكاة الزروع ، وذلك حيث يفسر قوله تعالى في الآية (141) من سورة الأنعام : " وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ " .. فيقول : " وَآتُواْ حَقَّهُ ".. يفيد أن في كل هذا الخارج من الأرض حقاً لابد من إعطائه : " يَوْمَ حَصَادِهِ " .. زمن تحصيله ، وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق ، أمر الحاكم العام بأخذه ، والعمل على جبايته لبيت المال ، وقد ترك التقدير للأمة بحسب الحال". [218] أقول : وليس للأمة دخل في تقدير مقررات الزكاة بعد أن قدرها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقررها على الأمة.
_ مصارف الزكاة:
كذلك تخبط المؤلف في شرحه لبعض مصارف الزكاة ، وذلك حيث فسر قوله تعالى في الآية (60 ) من سورة التوبة "…. وَفِي الرِّقَابِ "… فقال : " في خلاصها من الاستعباد . وفي هذا الزمان تجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب ، فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم ، وفي الزكاة حق لهذا التعاون". [219]
_ الطلاق :
كذلك نجد المؤلف يذهب إلى أن الطلاق لا يقع إلا إذا كان سببه أمراً يخل بنظام العشرة ، وآتيا من قبل المرأة ، وذلك حيث يقول في قوله تعالى في الآية (1) من سورة الطلاق : } لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ { ما نصه : " بُيُوتِهِنَّ " .. بيوت الزوجية . راجع البقرة من (226-242) والاحزاب ( 40) ، والتحريم (5 ) ، والنور (5-10) لتعرف أن الطلاق وإن كان في يد الرجل لا يقع إلا بسبب يخل بنظام العشرة الزوجية". [220]..
هذا بعض ما جاء في هذا الكتاب الذي هذى به صاحبه ، وفيه غير هذا كثير مما يدل على أن الرجل قد ركب متن الغواية ، ومشى يخبط خبط الأعشى في مهمه متسع من الضلالة!!.
وحسبي أن أكون قد أطلعت القارئ على بعض ما جاء في هذا الكتاب ، ولست في حاجة إلى أن أطيل بذكر ما يبطل هذه الأوهام ويفندها ، فإني لست في مقام الرد والتفنيد ، وإنما أنا في مقام بيان لون من ألون التفسير في هذا العصر وإذا كان القارئ الكريم يود أن يقف على إبطال هذه المزاعم التي حشا بها المؤلف كتابه ، فليرجع إلى قرار اللجنة الأزهرية ، التي ألفت للرد على هذا الكتاب [221] وليرجع إلى ما كتبه شيخنا العلامة السيد محمد الخضر حسين في الجزء الثالث من رسائل الإصلاح [222] ، ولا شك أنه سيجد فيما كتب هنا وهناك ما يكفي لأن يذهب بتلك التأويلات أدراج الرياح ، وما ينادي بأن صاحب هذه التأويلات قد انحرف عن الهدى ، فهو إلى مكان سحيق..


اللون الأدبي الاجتماعي للتفسير
في عصرنا الحاضر
يمتاز التفسير في هذا العصر بأنه يتلون باللون الأدبي الاجتماعي، ونعني بذلك : أن التفسير لم يعد يظهر عليه في هذا العصر ذلك الطابع الجاف . الذي يصرف الناس عن هداية القرآن الكريم ، وإنما ظهر عليه طابع آخر، وتلون بلون يكاد يكون جديداً وطارئا على التفسير، ذلك هو معالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولا وقبل كل شئ على إظهار مواضع الدقة في التعبير القرآني ، ثم بعد ذلك تصاغ المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شيق أخاذ ، ثم يطبق النص القرآني على ما في الكون من سنن الاجتماع ، ونظم العمران.
***
_ مدرسة الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده ، وأثرها في التفسير:
وإذا كان هذا اللون الأدبي الاجتماعي يعتبر في نظرنا عملا جديداً في التفسير ، وابتكاراً يرجع فضله إلى مفسري هذا العصر الحديث ، فإنا نستطيع أن نقول بحق : إن الفضل في هذا اللون التفسيري يرجع إلى مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده للتفسير .. هذه المدرسة التي قام زعيمها ، ورجالها من بعده بمجهود كبير في تفسير كتاب الله تعالى ، وهداية الناس إلى ما فيه من خير الدنيا وخير الآخرة.
نعم ، قامت هذه المدرسة بمجهود كبير في تفسير كتاب الله تعالى . مجهود نحمد لها الكثير منه ، ولا نوافقها على بعض منه قليل .
***
_ محاسن هذه المدرسة:
فالذي نحمده لهذه المدرسة : أنها نظرت للقرآن نظرة بعيدة عن التأثر بمذهب من المذاهب ، فلم يكن منها ما كان من كثير من المفسرين من التأثر بالمذهب إلى الدرجة التي تجعل القرآن تابعاً لمذهبه ، فيؤول القرآن بما يتفق معه، وإن كان تأويلا متكلفا وبعيداً .
كما أنها وقفت من الروايات الاسرائيلية موقف الناقد البصير ، فلم تشوه التفسير بما شوه به في كثير من كتب المتقدمين ، من الروايات الخرافية المكذوبة ، التي أحاطت بجمال القرآن وجلاله ، فأساءت إليه وجرأت الطاعنين عليه!!.
كذلك لم تغتر هذه المدرسة بما اغتر به كثير من المفسرين من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة التي كان لها أثر سئ في تفسير القرآن الكريم !!.
ولقد كان من أثر عدم اغترار هذه المدرسة بالروايات الاسرائيلية، والأحاديث الموضوعة ، أنها لم تخص في تعيين ما أبهمه القرآن ، ولم تجرؤ على الخوص في الكلام عن الأمور الغيبية ، التي لا تعرف إلا من وجهة النصوص الشرعية الصحيحة ، بل قررت مبدأ الإيمان بما جاء من ذلك مجملا ، ومنعت من الخوض في التفصيلات والجزئيات ، وهذا مبدأ سليم ، يقف حاجزاً منيعا دون تسرب شئ من خرافات الغيب المظنون إلى المعقول والعقائد .
كذلك نجد هذه المدرسة أبعدت التفسير عن التأثر باصطلاحات العلوم والفنون ، التي زج بها في التفسير بدون أن يكون في حاجة إليها، ولم تتناول من ذلك إلا بمقدار الحاجة ، وعلى حسب الضرورة فقط .
ثم إن هذه المدرسة ، نهجت بالتفسير منهجا أدبيا اجتماعياً ، فكشفت عن بلاغة القرآن وإعجازه ، وأوضحت معانيه ومراميه ، وأظهرت ما فيه من سنن الكون الأعظم ونظم الاجتماع ، وعالجت مشاكل الأمة الاسلامية خاصة ، ومشاكل الأمم عامة ، بما أرشد إليه القرآن ، من هداية وتعاليم . جمعت بين خيري الدنيا والآخرة ، ووفقت بين القرآن وما أثبته العلم من نظريات صحيحة ، وجلت للناس أن القرآن كتاب الله خالد ، الذي يستطيع أن يساير التطور الزمني والبشري ، إلى أن يرث الله الارض وما عليها ، ودفعت ما ورد من شبه على القرآن ، وفندت ما أثير حوله من شكوك وأوهام ، بحجج قوية قذفت بها على الباطل فدمغته فإذا هو زاهق.. كل هذا بأسلوب شيق جذاب يستهوي القارئ ، ويستولى على قلبه ، ويحبب إليه النظر في كتاب الله ، ويرغبه في الوقوف على معانيه وأسراره.
هذا ما نحمده لهذه المدرسة ، ولا نستطيع أن نغمطها عليه ، أو نقلل من فضلها فيه .
***



_ عيوب هذه المدرسة:
أما ما نأخذه على هذه المدرسة ، فهو أنها أعطت لعقلها حرية واسعة ، فتأولت بعض الحقائق الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم ، وعدلت بها عن الحقيقة إلى المجاز أو التمثيل ، وليس هناك ما يدعو لذلك إلا مجرد الاستبعاد والاستغراب ، استبعاد بالنسبة لقدرة البشر القاصرة ، واستغراب لا يكون إلا ممن جهل قدرة الله وصلاحيتها لكل ممكن .
كما أنها بسبب هذه الحرية العقلية الواسعة جارت المعتزلة في بعض تعاليمها وعقائدها وعقائدها ، وحملت بعض الفاظ القرآن من المعاني ما لم يكن معهوداً عند العرب في زمن نزول القرآن وطعنت في بعض الأحاديث : تارة بالضعف ، وتارة بالوضع ، مع أنها أحاديث صحيحة رواها البخاري ومسلم ، وهما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى بإجماع أهل العلم ، كما أنها لم تأخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة الثابتة ، في كل ما هو من قبيل العقائد ، أو من قبيل السمعيات ، مع أن احاديث الآحاد في هذا الباب كثيرة لا يستهان بها.
وما يقال من أن خبر الواحد لا تثبت به عقيدة إجماعا ، فيه نظر من وجوه :
الأول: أن دعوى الإجماع باطلة: فإن للعلماء أربعة أقوال في إفادة خبر الواحد العلم:
1- يفيد الظن مطلقاً .
2- يفيد العلم بقرينة .
3- يفيد العلم من غير قرينة باطراد.
4- يفيد العلم من غير قرينة لا باطراد.
الثاني: إذا جرينا على أن خبر الواحد يفيد العلم ، أمكن أن تثبت به عقيدة ، وإذا جرينا على أنه يفيد الظن ، أمكن أن تثبت به العقيدة إذا احتفت به قرائن – على المختار – لإفادته العلم حينئذ ، ومن  هنا جزم ابن الصلاح وغيره بأن أحاديث الصحيحين التي لم تنتقد عليهما تفيد العلم ، فإن الأمة قد تلقتهما بالقبول ، وهي معصومة من الخطأ ، وظن المعصوم لا يخطئ . [223]
الثالث: أنه ليس المراد من العقيدة كل ما يعتقد ، وإلا لتناول ذلك الفروع الفقهية ، فإنه لا يسوغ العمل بها إلا بعد اعتقاد صحة الحكم فيها ، وإنما المراد بالعقائد أصولها ، وهو ما كان الإخلال بها موجبا للكفر، كالإيمان بالله وباليوم الآخر ، وأما الإحاديث الواردة في الحوادث الماضية ، أو المستقبلة ، أو المتعلقة بتفاصيل اليوم الآخر وما فيه ، فلا يشترط فيها التواتر ، لأن هذه الأمور ليست من قبيل العقائد التي يترتب على عدم تصديقها الكفر والعياذ بالله تعالى ، ولكن يكتفي فيها بأن تكون من طريق صحيح .
***
_ أهم رجال هذه المدرسة:
هذا . وإن أهم رجال هذه المدرسة ، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده زعيمها وعميدها ، ثم المرحوم السيد محمد رشيد رضا ، والمرحوم الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي ، وهما خير من أنجبت هذه المدرسة وخير من ترسم خطا الأستاذ الإمام ، وسار على منهجه وطريقته في التفسير.
ولست أرى القارئ بحاجة إلى أن أترجم لحياة هؤلاء الرجال الثلاثة ، فالعهد بهم قريب ، وليس يخشى على من له صلة بالحركة العلمية في هذا العصر شئ من معالم حياتهم ، ويكفي أن أتكلم عن إنتاج كل واحد منهم في التفسير وعن منهجه الذي سلكه فيه ، وسيقف القارئ – إن شاء الله تعالى - على ما قلته عن هذه المدرسة ، وما ذكرته لها من أثر محمود في التفسير ، وما ذكرته عنها من أثر يؤخذ عليها ولا يحمد لها .
2- السيد محمد رشيد رضا [224]
_ كيف أتصل الشيخ رشيد بالأستاذ الامام:
نشأ السيد محمد رشيد رضا في طرابلس الشام ، وفيها تلقى العلم عن شيوخها وعلمائها ، وجلس يفيدهم بعلمه ، ويرشدهم بنصحه ووعظه، وفي هذه الأثناء وقع في يده نسخة من جريدة العروة الوثقى ، التي كان يقوم بإخراجها والكتابة فيها رجل الإصلاح جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه الشيخ محمد عبده ، فقرأ الشيخ رشيد ما في الجريدة ، فأعجب بالرجلين إعجاباً شديداً ، ورغب في الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني فلم يسعده الحظ ، ثم تعلق أمله بالاتصال بخليفته الشيخ محمد عبده ، فأسعده الحظ في هذه المرة ، واتصل بالشيخ في رجب سنة 1315هـ وكان أول اقتراح عرضه عليه ، أن يكتب تفسيراً للقرآن على نهج ما كان يكتب في جريدة العروة الوثقى ، وبعد أخذ ورد بين الشيخين اقتنع الأستاذ الإمام بأن يقرأ دروساً في التفسير بالجامع الأزهر ، ولم يلبث إلا قليلا حتى قام بإلقاء دروسه في التفسير على طلابه ومريديه.
وكان الشيخ رشيد – رحمه الله – ألزم الناس لهذه الدروس ، وأحرصهم على تلقيها وضبطها ، فكان يكتب بعض ما يسمع ، ثم يزيد عليه بما يذكره من دروس الشيخ بعد ذلك ، ثم قام بنشر ما كتب على الناس في مجلته "المنار" ، ولكنه لم يفعل ذلك إلا بعد مراجعة أستاذه لما كتب ، وتناول له بالتنقيح والتهذيب. [225]
لهذا كله نستطيع أن نقول إن الشيخ رشيد هو الوارث الأول لعلم الأستاذ الإمام ، إذ أنه أخذ عنه فوعى ما أخذ ، وألف في حياته وبعد وفاته، فكان لا يحيد عن منهجه أو ينحرف عن أفكاره ، وليس غريباً ما يرويه الشيخ رشيد من أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كان يقول : "صاحب المنار ترجمان أفكاري" [226] كما أنه ليس غريبا ما يحدث به أحد تلاميذه الشيخ رشيد ، من أن الإستاذ الإمام وصف الشيخ رشيد بأنه "متحد معه في العقيدة ، والفكر ، والرأي ، والخلق ، والعمل". [227]
***
_ انتاج الشيخ رشيد في التفسير:
وإذا نحن تتبعنا ما كتبه الشيخ رشيد من تفسير للقرآن الكريم لوجدنا أنه أكثر رجال مدرسة الأستاذ الإمام إنتاجاً في التفسير ، وذلك أنه كتب تفسيره المسمى بتفسير القرآن الحكيم ، والمشهور بتفسير المنار.. ابتدأ بأول القرآن وانتهى عند قوله تعالى : (101) من سورة يوسف : } رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {.. ثم عاجلته المنية قبل أن يتم تفسير القرآن كله.
هذا القدر من التفسير مطبوع في اثنى عشر مجلداً كباراً ، ينتهي المجلد الثاني عشر عند قوله تعالى في الآية (53) من سورة يوسف : } وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي {.. الآية.
وقد أكمل الأستاذ بهجت البيطار تفسير سورة يوسف ، وطبع تفسير هذه السورة بتمامها في كتاب مستقل يحمل اسم الشيخ رشيد رحمه الله.
هذا .. وقد فسر الشيخ من القصار سورة الكوثر ، والكافرون ، والإخلاص ، والمعوذتين ، ولا نعرف له إنتاجا في التفسير أكثر من هذا ، وهو إنتاج لا بأس به ، وفيه تتجلى روح الأستاذ الإمام ممزوجة بروح تلميذه ، فالمصادر هي المصادر ، والهدف هو الهدف ، والمنهج هو المنهج ، والأفكار هي الأفكار ، لا فرق بين الرجلين إلا فيما هو قليل نادر .
***
_ مصادره في التفسير:
أما مصادره في التفسير فإنه كان يستعين ببعض آيات القرآن على فهم بعض آخر منه ، خصوصاً إذا تكررت الآيات في موضوع واحد ، وكان يستعين أيضاً بما صح عنده من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين ، وبأساليب لغة العرب وسنن الله في خلقه[228] ، ومستعيناً بعد ذلك كله بعقله المتحرر من التقليد للمفسرين ، إلا فيما يقتنع به من أقوالهم ، وأقوال شيخه على الأخص ، ويحدثنا بعض تلاميذه : " أنه كان لا يراجع ما يكتب في التفسير إلا بعد أن يكتب فهمه في الآية ، حذراً من تأثير أقوال المفسرين على نفسه ، وإذا آتاه الله فهما في القرآن لم يسبق إليه، أو لم يطلع عليه إلا بعد كتابته من عنده فإنه يتحدث إلى إخوانه شاكراً، وقد يقصه على أهل بيته مغتبطاً مسروراً ". [229]
***
_ هدفه من التفسير:
وأما هدفه في التفسير فهو عين ما يهدف إليه الأستاذ الإمام ، فإذا كان الأستاذ الإمام يصرح بأن هدفه من التفسير هو " فهم الكاتب من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة " [230] . فإن صاحبنا يصرح بمثل ذلك في كثير من مواضع كتابه ، فيقول بعد أن يوجه اللوم إلى من حشروا في التفسير من قواعد العلوم ، ومسائل الفنون ، وموضوعات الحديث ، وخرافات الإسرائيليات ، ما يصرف الناس عن هداية القرآن ، فيقول : " ان حاجة الناس صادرت شديدة إلى تفسير تتوجه العناية الأولى فيه إلى هداية القرآن على الوجه الذي يتفق مع الآيات الكريمة ، المنزلة في وصفه ، وما أنزل لأجله ، من الإنذار، والتبشير ، والهداية ، والإصلاح". [231]
يريد أنه يستعمل تفسيره على هذا النمط ليسد حاجة الناس ، ويقول في موضع آخر: "أن قصدنا من التفسير بيان معنى القرآن ، وطرق الاهتداء ، به في هذا الزمان". [232]
***
_ منهجه في التفسير:
وأما منهجه فيه فهو عين ما نهجه الأستاذ الإمام ، فلا تقييد بأقوال المفسرين ، ولا تحكم للعقيدة في نص القرآن ، ولا خوض في إسرائيليات ، ولا تعيين لمبهمات ، ولا تعلق بأحاديث موضوعة ، ولا حشد لمباحث الفنون ، ولا رجوع بالنص إلى اصطلاحات العلوم ، بل شرح للآيات بأسلوب رائع ، وكشف عن المعاني بعبارة سهلة مقبولة ، وتوضيح لمشكلات القرآن ، ودفاع عنه يرد ما أثير حوله من شبهات ، وبيان لهدايته ، ودلالة إلى عظيم إرشاده ، وتوقيف على حكم تشريعه ، ومعالجة لأمراض المجتمع بناجع دوائه ، وبيان لسنن الله في خليقته.
ولكنا نجد الشيخ رشيد – رحمه الله – يحيد عن هذا المنهج بعض الشئ ، وذلك بعد وفاة شيخه ، واستقلاله بالعمل ، ويحدثنا هو بذلك فيقول :
"وإنني لما استقللت بالعمل بعد وفاته ، خالفت منهجه – رحمه الله تعالى – بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة ، سواء أكان تفسيراً لها ، أو في حكمها ، وفي تحقيق بعض المفردات ، أو الجمل اللغوية ، والمسائل الخلافية بين العلماء ، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة ، وفي بعض الاستطرادات لتحقيق مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها ، بما يثبتهم بهداية دينهم في هذا العصر ، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو بحل بعض المشكلات التي أعيا حلها . بما يطمئن به القلب ، وتسكن إليه النفس".[233]
ويبدو لنا أن هذا التوسع الذي كان من الشيخ رشيد خصوصاً في المسائل الاجتماعية ، لم يدفعه إليه إلا كونه رجلا "صحفيا" اتصل عن طريق مجلته بالناس على اختلاف منازعهم ومشاربهم ، وفيهم المتدين ، والملحد ، والكافر ، فأراد أن يتمشى بكتابته مع الجميع ، فيثبت المتدين على دينه ، ويرد الملحد عن إلحاده ، ويكشف عن محاسن الإسلام ، لعل الكافر أن يثوب إلى رشده ويرجع عن كفره.[234]
***
_ آراؤه في التفسير:
أما آراؤه في التفسير فهي كآراء شيخه ، تقوم على حرية واسعة في الرأي واعتداد عظيم بالفهم ، وثقة قوية بما عنده من العلم ، وعدم تقيد ببعض المسلمات عند العلماء ، ولهذا نجد له افكارا غريبة في تفسير القرآن استقل ببعض منها ، وقلد شيخه في بعضها الآخر.
***
_ رأيه في أصحاب الكبائر:
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (275) من سورة البقرة في شأن المرابين: } وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {. نجده يخالف أهل السنة ، ويؤكد أن صاحب الكبيرة التي في درجه أكل الربا وقتل العمد إذا مات ولم يتب منها يخلد في النار ، ولا يخرج منها أبداً فيقول : " أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه ، فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم ، الذي لا ينهاهم إلا عما يضرهم في أفرادهم أو جمعهم ، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه ، فيكونون فيها خالدين".
"وقد أول الخلود المفسرون ، لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار ، فقال أكثرهم : إن المراد : ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقاداً ، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا ، وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم قبل التحريم ، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم ، فإذا كان الوعيد قاصرا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل".
"والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء ، يجب إرجاع كل قول في الدين إليه ، ولا يجوز تأويل شئ ليوافق كلام الناس ، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال . ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار ، انتصاراً لأصحابه الأشاعرة ، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم الخلود بطول المكث ، أما نحن فنقول : ما كل ما يسمى إيمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار ، الإيمان إيمانان : إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه . وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان ، متمكنة في العقل بالبرهان ، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال ، بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانهم في كل حال إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تنسى ، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله ، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ، إيثاراً لحب المال واللذة ، عن دين الله وما فيه من الحكم والمصالح . وأما الإيمان الأول : فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله تعالى ، لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال ، كما ورد في الحديث والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جداً ، وهو مذهب السلف الصالح ، وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة حتى جرءوا الناس على هدم الدين ، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يعمل به ، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات ، مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم ، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال : إنني لا أنكر انني آكل الربا ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام ، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد ، وبأنه يرضى أن يكون محاربا لله ولرسوله ، وظالما لنفسه وللناس ، كما سيأتي في آية اخرى ، فهل يعترف بالملزوم ؟ أو ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان". [235]
***
_ تقليده لشيخه في قصة آدم:
كذلك نجد صاحب المنار يقلد شيخه في موقفه من قصة آدم وإبليس وما يتعلق بها فيقول:
"وهذا التفصيل مبنى على كون الأمر بالسجود للتكليف ، وأنه وقع حوار بين الرب سبحانه وبين إبليس . وأما على القول بأن الأمر للتكوين ، وأن القصة بيان لغرائز البشر والملائكة والشياطين ، فالمعنى : أنه تعالى جعل ملائكة الأرض المدبرة بأمر الله وإذنه لأمورها بالسنن التي عليها مدار نظامها كما قال : "فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً " [236]} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا {.. إلا أنه جعل الشيطان عاتيا متمرداً على الإنسان ، بل عدواً له ، من حيث أن الإنسان بروحه وسط روح الملائكة المفطورين على طاعة الله وإقامة سننه في صلاح الخلق ، وبين روح الجن الذي يغلب على شرارهم – وهم الشياطين – التمرد والعصيان . وقد أعطى الإنسان إرادة واختياراً من ربه ترجيح ما به يصعد إلى أفق الملائكة ، وما به يهبط إلى أفق الشياطين " . [237] .. مسخرة لآدم وذريته ، إذ خلق الله هذا النوع مستعدا للانتفاع بها كلها ، بعلمه بسنن الله تعالى فيها ، وبعلمه بمقتضى هذه السنن كخواص الماء ، والهواء والكهرباء، والنور، والأرض : معادنها ، ونباتها ، وحيوانها، وإظهاره لحكم الله تعالى وآياته فيها ، ومستعداً لاصطفاء الله بعض أفراده ، واختصاصهم بوحيه ورسالته، وإقامة من اهتدى بهم لدينه وميزان شرعه ، وقد أشير إلى ذلك في الآية (31) من سورة البقرة بقوله تعالى :
***
_ تذرعه بالمجاز والتشبيه:
كذلك نجد صاحب النار يصرف بعض ألفاظ القرآن عن ظواهرها ، ويعدل بها إلى ناحية المجاز أو التشبيه ، وذلك فيما يبدوا مستبعداً ومستغرباً لو أجرى على حقيقته ، وهذا المسلك الذي جرى عليه الشيخ رشيد هو مسلك شيخه ، ومسلك الزمخشريي وغيره من المعتزلة ، الذين اتخذوا التشبيه والتمثيل سبيلا للفرار من الحقائق التي يصرح بها القرآن ، ولا تعجز عنها قدرة الله ، وإن بعدت عن منال البشر.
فمثلا نجد صاحب المنار عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (47) من سورة النساء : يا} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا {.. الآية . نراه يستظهر أن المعنى المراد هنا هو " آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها في كيد الإسلام ، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء ، بإظهار الإسلام ونصره عليكم ، وفضيحتكم فيما تأتونه باسم الدين والعلم الذي جاء به الأنبياء ، وقد كان لهم عند نزول الآية شئ من المكانة والمعرفة والقوة ، فهذا ما نفسرها به ، على جعل الطمس والرد على الأدبار معنويين . . ثم سرد بعض أقوال المفسرين في هذه الآية ، ثم بين أن ما اختاره هو رأي شيخه الذي مال إليه في دروسه". [238]
***
_ رأيه في السحر:
ثم إن صاحب المنار لا يرى السحر إلا ضربا من التمويه والخداع ، وليس له حقيقة كما يقول أهل السنة ، وهو يوافق بهذا القول قول شيخه وقول المعتزلة من قبله ، ولهذا نراه عندما فسر قوله تعالى في الآية (7) من سورة الأنعام : } َلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ {.. نجده يقول : " والآية تدل على أن السحر خداع باطل ، وتخييل يرى ما لا حقيقه له في صورة الحقائق". [239]
هذا .. ولم يستطع الشيخ رشيد أن يرد حديث البخاري في سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل شيخه ، ولكنه تأول الحديث على أنه كان من قبيل العقد عن النساء ، وبين أن عذر من طعن في الحديث هو أن هشاما راوى الحديث عن أبيه عن عائشة مطعون فيه من كثير من أئمة الجرح والتعديل . [240]
***
_ رأيه في الشياطين:
وهو يرى أن شياطين الجن لا تسلط لها على الإنسان إلا بالإغواء فقط، ويقول : " كل ما يدعيه بعض الدجالين من تسلط الشيطان ، أو ملوك اللجان على بعض الناس ، وقدرتهم على نفعهم وضرهم ، فهو كذب وحيل من شياطين الإنس وحدهم". [241]
***



_ رأيه في الجن:
كما يرى إن الجن لا ترى للإنسان على أي حال من الأحوال ، ويرجح أن من ادعى رؤية الجن فذلك وهم منه وتخيل ، ولا حقيقة له في الخارج ، أو لعله رأى حويانا غريباً كبعض القردة فظنه أحد أفراد الجن .[242]  ويقول هذا ثم يعرض في "الهامش" لذكر حديث أبي هريرة فيمن كان يسرق تمر الصدقة ، وإخبار النبي له بأنه شيطان – وهو في البخاري – ولغيره من الأحاديث التي تدل على أن الإنسان يرى الجني ويبصره ، ثم يقول بعد أن يفرغ من سرده للروايات "والصواب أنه ليس في هذه الروايات كلها حديث صحيح". [243]
بل ونجده يزيد على ذلك فيجوز أن تكون ميكروبات الأمراض نوعا من الجن . وذلك حيث يقول عندما تعرض لتفسير قوله تعالى في الآية (275) من سورة البقرة : } الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ {.. الآية : ".. والمتكلمون يقولون : إن الجن أجسام حية خفية لا ترى ، وقد قلنا في المنار غير مرة : إنه يصح أن يقال : أن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظارات المكبرة وتسمى بالميكروبات ، يصح أن تكون نوعا من الجن ، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض". [244]
***
_ رأيه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم:
ولقد نجد صاحب المنار يذهب في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم مذهباً بعيداً ، فيقرر أنه لا مجعزة للنبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم ، وينكر بعض معجزاته الكونية ، ويتأول ما يشهد لها من آيات ، ويجحد صحة ما يقوم بإثباتها من الأحاديث ، وما يسلمه من بعض الآيات الكونية فهو في نظره إكرام للنبي من ربه ، وليس من قبيل المعجزة ، أو الحجة على صدق دعوته.
يذهب إلى هذا ويستدل له بمثل قوله تعالى في الآية (59) من سورة الإسراء : } وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ {.. الآية ، وبمثل قوله عليه السلام من رواية أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما : " ما من نبي من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة .
ولكن صاحب المنار يستشعر معارضة بعض نصوص القرآن والحديث لما ساقه من أدلة على مدعاه فيقول : " وقد يعارضه – يعني الحديث السابق – آية انشقاق القمر مع ماور في أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر فكان فرقتين ، ولكن في الأحاديث الواردة في انشقاقه عللا في متنها وأسانيدها ، وإشكالات علمية ، وعقلية ، وتاريخية ، فصلناها في المجلد الثلاثين من المنار ، وبينا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم في القرآن وكون الآيات المقترحة تقتضي إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال ، هو الحق الذي لا ينهض لمعارضته شئ". [245]
وإذا كان الشيخ رشيد قد تخلص هنا من معارضة الحديث بالطعن فيه ، فإنه قد تخلص في موضع آخر من معارضة الآية ، حيث فسر انشقاق القمر بظهور الحجة " . [246]
***
_ رأيه في مسائل من الفقه:
كذلك نجد صاحب المنار يعطي نفسه حرية واسعة في استباط الأحكام من القرآن الكريم ، مما جعله يخالف جمهور الفقهاء ، ويسفههم فيما ذهبوا إليه وإذا أردت مثالا لذلك فارجع إلى ما كتبه على قوله تعالى في الآية (180) من سورة البقرة : } كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ {.. فستجد أنه لم يعبأ بما عليه جمهور العلماء من أهل السنة من أن حكم هذه الآية منسوخ ، بصرف النظر عن كون الناسخ آية المواريث أو حديث " لا وصية لوراث " الذي جنح الشافعي في الأم إلى أن متنه متواتر [247]، فراح – رحمه الله – يؤكد بكل ما يملك من حجة : أن حكم الوصية للوالدين والأقربين باق لم ينسخ ، كما راح يفند كل دليل تمسك به الجمهور ، ولا أطيل بذكر ما قال في هذا الموضوع ، ويكفي أن أقول لك : إنه أنهى البحث في هذه المسألة بقوله : "وصفوة القول : أن الآية غير منسوخة بآية المواريث ، لأنها لا تعارضها ، بل تؤيدها ، ولا دليل على أنها بعدها ، ولا بالحديث ، لأنه لا يصلح لنسخ الكتاب ، فهي محكمة ، وحكمها باق ، ولك أن تجعله خاصاً بمن لا يرث من الوالدين أو الأقربين كما روى عن بعض الصحابة، وأن تجعله على إطلاقه ، ولا تكن من المجازفين الذين يخاطرون بدعوى النسخ فينبذ ما كتبه الله عليه بغير عذر، ولاسيما بعد ما أكده بقوله: "حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ". [248].
وإن أردت مثالا آخر فارجع إلى ما ذهب إليه في آية التيمم من سورة النساء ، فسترى أنه يقرر : أن المسافر يجوز له التيمم ولو كان الماء بين يديه ولا علة تمنعه من استعماله إلا كونه مسافراً ، ويخالف بذلك جماعة الفقهاء ، ويحمل عليهم حملة شديدة فيما ذهبوا إليه من أن المسافر لا يجوز له التيمم مع وجود الماء ، كما ينكر على من استشكل الآية من المفسرين ، ويقول فيما يقول : " سيقول أدعياء العلم من المقلديين ، نعم.. إن الآية واضحة المعنى ، كاملة البلاغة على الوجه الذي قررتم ، ولكنها تقتضي عليه أن التيمم في السفر جائز ولو مع وجود الماء . وهذا مخالف للمذاهب المعروفة عندنا ، فكيف يعقل أن يخفى معناها هذا على أؤلئك الفقهاء المحققين ؟ وكيف يعقل أن يخلفوها من غير معارض لظاهر ما أرجعوها إليه؟ .. ولنا أن نقول لمثل هؤلاء – وإن كان المقلد لا يحتاج لأنه لا علم له – وكيف يعقل أن يكون أبلغ الكلام وأسلمه من التكلف والضعف معضلا مشكلا ؟ وأي الأمرين أولى بالترجيح ؟ الطعن ببلاغة القرآن وبيانه. لحمله على كلام الفقهاء ؟ أو تجويز الخطأ على الفقهاء ، لأنهم لم يأخذوا بما دل عليه ظاهر الآية من غير تكلف ، وهو الموافق الملتئم مع غيره من رخص السفر ، التي فيها قصر الصلاة وجمعها ، وإباحة الفطر في رمضان ، فهل يستنكر مع هذا أن يرخص للمسافر في ترك الغسل والوضوء ، وهما دون الصلاة والصيام في نظر الدين ". . إلى أن قال : " ألا إن من أعجب العجيب ، غفلة جماهير الفقهاء عن هذه الرخصة الصريحة في عبارة القرآن ، التي هي أظهر وأولى من قصر الصلاة وترك الصيام ، وأظهر في رفع الحرج والعسر الثابت بالنص وعليه مدار الأحكام .. " ثم قال : "وإذا ثبت أن التيمم رخصة للمسافر بلا شرط ولا قيد ، بطلت كل تلك التشديدات التي توسعوا في بنائها على اشتراط فقد الماء ، ومنها ما قالوا من وجوب طلبه في السفر ، وما وضعوه لذلك من الحدود كحد القرب وحد الغوث". [249]
***


_ حملته على بعض المفسرين:
هذا .. ولا يفوتنا أن نقول ، إن صاحب المنار كان كثير التوسع فيما يتعقب به أحيانا قدماء المفسرين ، خصوصاً الفخر الرازي منهم، مع قسوة منه عليهم في الكثير الغالب . [250]
***
_ حملته على البدع والخرافات:
كما أنه كان كثير الاستطراد إلى تتبع بدع المسلمين ، والكشف عن عوارها والإرشاد إلى علاجها ، مع تشدد وتعسف منه في كثير من الأحيان.
***
_ شرحه لمبهمات القرآن بما جاء في التوراة والانجيل:
كذلك لا يفوتنا أن ننبه على أن صاحب المنار كان مع شدة لومه على المفسرين الذين يزجون بالإسرائيليات في تفاسيرهم ، ويتخذون منها شروحاً لكتاب الله ، يخوض هو أيضا فيما هو من هذا القبيل ويتخذ منه شروحا لكتاب الله ، وذلك أنه كثيراً ما ينقل عن الكتاب المقدس أخباراً وآثاراً يفسر بها بعض مهمات القرآن ، أو يرد بها على أقوال بعض المفسرين . [251] وكان الأجدر بهذا المفسر الذي يشدد النكير على عشاق الإسرائيليات ، أن يكف هو أيضاً عن النقل عن كتب أهل الكتاب ، خصوصا وهو يعترف أنه قد تطرق إليها التحريف والتبديل .
***
_ دفاعه عن الاسلام:
وأخيراً فلا يفوتنا أن الرجل قد دافع عن الإسلام والقرآن ، وكشف عما أحاط بهما من شكوك ومشاكل ، وقد استعمل في ذلك لسانه وقلمه ، وضمنه مجلته وتفسيره ، وتلك مزية للرجل يحمد عليها . ولا ننسى ما له من أفكار جريئة ومتطرفة.
***
3- الاستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي [252]
_ الاستاذ المراغي في مدرسة الشيخ محمد عبده:
ولم نعرف من رجال هذه المدرسة رجلا تأثر بروح الأستاذ الإمام ، ونهج على طريقته من التجديد واطراح التقليد ، والعمل على تنقية الإسلام من الشائب التي الصقت به، وتنبيه الغافلين عن هديه وإرشاده مثل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي عليه رحمة الله ورضوانه.
تربى هذا الرجل في مدرسة الأستاذ الإمام ، وتخرج منها وهو يحمل بين جنبيه قلباً مليئاً بالرغبة في الإصلاح ، والثورة على كل ما يقف في سبيل الإسلام والمسلمين .
هذا القلب الفتي ، العامر بما فيه من حب للخير ورغبة في الإصلاح، دفع بالرجل إلى ميدان الحياة الاجتماعية ، وترقى به في مراتب المناصب الدينية، وأخيراً وقف به عند الغاية ، فإذا بالرجل شيخا للأزهر ، وإذا بروح الإصلاح والتجديد تتدفق من فوق منبره ، وعلى قلوب طلابه وغير طلابه ، ثم تنساب جارفة إلى نواح من الحياة مختلفة ، فتعمل فيها عمل السحر والحياة والنور.
لم يلازم الشيخ المراغي أستاذه الإمام ملازمة طويلة كما لازمه الشيخ رشيد ولم يجلس إليه كثيراً مثل ما جلس ، ولكنه كان على رغم ذلك أعمق أثرا وأكثر تحقيقا لما تهدف إليه هذه المدرسة من ضروب الاصلاح وصنوف التجديد ، والسر في ذلك – كما يظهر لنا – هو تقلب الشيخ في مختلف المناصب الدينية الكبيرة ، ثم ما كان فيه من جاذبية وقدرة على استجلاب قلوب سامعيه واستمالتها إليه، مما أجلس بين يديه الملك ، والأمير، والوزير، والشيخ الكبير ، والطالب الصغير ، ورجل الشارع.
جلس هؤلاء جميعا يستمعون إليه ويأخذون عنه ، فكان الميدان فسيحا أمام الشيخ ، يلقى فيه بآرائه وأفكاره ، فتجد الدعوة قبولا من مستمعيه ، ورواجاً عند مريديه .. ثم لا تلبث أن تنتشر فتعم كل شئ.
وإذا كان كتاب الله هو الدستور الذي شرعه الله تعالى للأمة الإسلامية ، وجعل فيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة ، فلم لا يكون هو الباب الذي يصل منه الشيخ إلى ما يرجوه من خير ، وما يهدف إليه من إصلاح.
***
_ انتاجه في التفسير:
طرق الشيخ هذا الباب ، فعقد دروسا دينية في تفسير القرآن الكريم ، استمع إليها الكثير من الناس على اختلاف طبقاتهم ، من الملك إلى رجل الشارع كما قلت ، وأذيعت هذه الدروس أيضاً في كثير من ممالك الأرض ، ودول الإسلام وأخيراً طبعت هذه الدروس ، ووزعت على الناس ليعم نفعها ، ويزداد أثرها .
لم تكن هذه الدروس على شئ من الكثرة ، ولم يكن مقدار ما تناولته من آيات القرآن بالمقدار الكبير ، الذي كنا نرغب ونطمع في أن تزود به المكتبة الإسلامية .
نعم ... لم تتناول هذه الدروس من آيات القرآن الكريم إلا مقداراً قليلا ، وإذا نحن ذهبنا نستقصيه فإنا لا نجده أكثر من شرحه لقوله تعالى في الآية (177) من سورة البقرة : } لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ {.. إلى قوله : } أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {. [253]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (133-138) من سورة آل عمران : } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ {.. إلى قوله : } هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {..[254]
وشرحه لقوله تعالى في الآيتين (13 ،14) من شورة الشورى : } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً {.. إلى قوله : } أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ {..[255]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (151 -153) من سورة الأنعام } قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ {.. إلى قوله : } ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {..[256]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (183-186) من سورة البقرة : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ {.. إلى قوله : } وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {..[257] 
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (24-29) من سورة الأنفال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ {.. إلى قوله : } وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {..[258] 
وشرحه لسورة الحجرات [259]، وشرحه لسورة الحديد [260]، وشرحه لسورة لقمان.[261]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (160-165) من سورة الأنعام } مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا { .. إلى آخر السورة . [262]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (199-206) من سورة الأعراف } خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ {.. إلى آخر السورة. [263]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (30-34 ) من سورة فصلت : } إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا {.. إلى قوله : } كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { . [264]
وشرحه لأوائل سورة الأعراف .. إلى قوله في الآية (9) } وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ {.. [265]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (112-123) من سورة هود : } فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ {.. إلى آخر السورة .
وشرحه لقوله تعالى في الآيتين (58-59) من سورة النساء : } إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {.. إلى قوله : } ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً {..[266]
وشرحه لقوله تعالى في الآية (17) من سورة الرعد : } أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا {.. إلى قوله } كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ {..[267]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (83-88) من سورة القصص : } تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {.. إلى آخر السورة . [268]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (1-10) من سورة الفرقان : } تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ {.. إلى قوله : } وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً {.. [269]
وشرحه لقوله تعالى في الآيات (63-77) من سوررة الفرقان أيضاً } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً {.. إلى قوله : } كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً { [270]..
وشرحه لسورة العصر.[271]
وشرحه لسورة الملك .[272]
هذا هو كل ما للأستاذ المراغي – رحمه الله – من إنتاج في التفسير ، وهو على قلته عمل كبير وعظيم ، بالنظر لما يهدف إليه من إصلاح ، وما يحمل في طياته من توجيه حسن في التفسير.
وحسب الشيخ أن يكون قد لفت قلوب كثيرة من المسلمين إلى القرآن ، بعد أن أعرضوا عن هديه ، وضلوا عن إرشاده ، وتلك حسنة نرجو له برها وذخرها عند الله .
***
_ منهجه في التفسير:
يتتبع الإنسان إنتاج الأستاذ الأكبر في التفسير ، ويستقصى ما عرض له من آيات القرآن الكريم ، فيلحظ أن الشيخ – رحمه الله تعالى – كان يختار لدروسه من آيات القرآن ما تتجلى فيه دلائل قدرة الله وآيات عظمته ، وما تظهر فيه وسائل هداية البشر ، ومواضع العظة والعبرة ، كما يلحظ أيضاً أنه وجه جانباً كبيراً من عنايته إلى الآيات التي يجمعها وقضايا العلم الحديث صلة القربى ، ليظهر للناس أن القرآن لا يقف في سبيل العلم ، ولا يصادم ما صح من قواعده ونظرياته ، وذلك بما يهديه الله إليه من الدقة في التوفيق بين قضايا القرآن ، وقضايا العلم الحديث .. دقة لا يبلغ شأوها ، ولا يدرك خطرها إلا من شغل نفسه ، وكد فهمه في هذا السبيل.
***
_ مصادره في التفسير:
وأعتقد أن الشيخ – رحمه الله – كان يستند في تحضير دروسه على كتاب الله تعالى بجمع ما كان من الآيات في موضوع واحد . لعل ما أجمل في موضع فسر في موضع آخر ، وما أبهم في آية بين في آية اخرى ، وكان يستند أيضاً إلى ما صح من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، ثم على أساليب اللغة وسنن الله في الكون ، ثم على ما كتبه قدماء المفسرين ، ولكنه لم يلغ عقله في هذا كله ، بل كان يضع هذه المصادر كلها أمام نظره ، ويعرض ما فيها على قلبه وعقله ، فما أعجبه منها أقره ، وما لم يطمئن إليه نبذه وأعرض عنه.
لم نسمع عن الأستاذ المراغي – رحمه الله – أنه فسر القرآن بدون أن ينظر أولا فيما كتبه المفسرون ، ولم يبلغنا عنه أنه ادعى لنفسه أنه أتى بما لم يأت به الأوائل في التفسير ، بل على العكس من ذلك وجدناه يعترف بالفضل للأقدمين ، ولا ينسى ما كان لهم من مجهود طيب وأثر محمود ، وذلك حيث يقول عن تفسيره : " ما هو إلا ثمرات من غرس أسلافنا الأقدمين ، وزهرات من رياضهم".[273]
لم يتحامل الشيخ – رحمه الله – على المفسرين كما تحامل غيره ، ولم يرم في وجوههم بالعبارات القاذعة اللاذعة ، بل كان عفاً في نقده ، نزيهاً في عبارته ، وهذا أدب ما أجمله بالعلماء ، وبخاصة مع أسلافنا ومتقدميهم .
***
_ موقفه من مبهمات القرآن:
هذا ، وإن الأستاذ المراغي – رحمه الله – قد نهج في تفسيره منهج شيخه ، فوجدناه لا يخوض في مبهمات القرآن بالتفصيل . ولا يدخل في جزئيات سكت عنها القرآن ، وأعرض عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا الروايات الموضوعة أو الضعيفة بكافية عنده حتى يزج بها في تفسيره ، ولا الأخبار الإسرائيلية بمقبولة لديه ، حتى يجعل منها شروحاً لما أجمله القرآن وسكت عن تفصيله ، فلهذا نراه عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (133) من سورة آل عمران } وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {.. نجده يقول بعد أن ينتهي من تفسير الآية ما نصه: "والآية تدل بظاهرها على أن الجنة مخلوقة الآن ، لأن الفعل الماضي يفهم هذا . غير أنه من الجائز أن يكون من قبيل قوله تعالى : } وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ {..[274] فلا يدل على خلقها الآن ، والبحث في هذا لا فائدة له ، ولا طائل تحته". [275]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (183) من سورة البقرة : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ {.. الآية ، وجدناه يقول : ".. ونحن لا نعلم ما هو الذي فرضه الله على الأمم السابقة من قبل ، أهو شهر رمضان كما قال بعض الناس؟ أم غيره ؟ وليس لنا ما يهدينا إلى شئ معين من دليل يطمئن إليه القلب . والتشبيه لا يدل على المماثلة في كل شئ ، فنحن نؤمن بأن صوما فرض على الأمم السابقة ، لا نعلم مقداره ولا كيفيته ، ولا يزال الصوم معروفا عند الأمم الأخرى على أوضاع مختلفة " . [276]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (12) من سورة لقمان } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ {.. الآية ، وجدناه يقول ما نصه : " اختلف الناس في لقمان هذا من هو؟ ومن أي الامم هو ؟ فقيل : إنه من بني إسرائيل . وقيل : إنه كان عبداً حبشياً. وقيل : إنه أسود من سودان مصر . وقيل : إنه يوناني . ومن اللناس من جعله نجارا ، ومنهم من جعله راعي غنم ، ومنهم من قال إنه نبي ، ومنهم من قال إنه حكيم . وكل هذه أقوال ليس لها سند يعول عليه ، وبعد أن وصفه الله بالحكمة فلا يرفع من شأنه أنه كان من أشرف الأمم ، ولا يضع من قدره أنه كان زنجيا مملوكا " . [277]
***



_ عنايته باظهار أسرار التشريع:
كذلك نجد الأستاذ الأكبر يهتم في تفسيره اهتماما كبيرا بإظهار سر التشريع الإسلامي ، وحكمة التكليف الإلهي ، ليظهر محاسن الإسلام ، ويكشف عن هدايته للناس .
فمثلا عندما تعرض لآيات الصوم في سورة البقرة ، نجده يفيض في سر الصوم وحكمته فيقول : " الصيام أحد الأركان الخمسة التي بنى عليها الإسلام ، وهو رياضة بدنية ، وتهذيب خلقي ، وتطهير روحي ، ذلك أن الاسترسال في الشهوات ، والانغماس في اللذات حجاب بين الروح وبين الكمالات القدسية والفيض الإلهي ، يعوقها عن تلقي الإلهام وعن لذة الاتصال ، ولذلك يلجأ أرباب المقامات والعارفون إلى الصوم ، كلما أحسوا بعداً عن اللذات الإلهية ، وانزعج خاطرهم شوقا إلى القرب منها ".
"وفي الصبر على الحرمان من اللذات التي تنازع إليها النفس ، وتقتضيها الطبيعة ، تربية للإرادة ، وتقوية على المضي في العزم ، وعدم نقض العقد والعهد إذا وسوس الشيطان وزين للنفس الخروج عن العهود ، لما فيها من المشقات ، وفي تقوية الإرادة على هذا النحو إعداد لتلقي التكاليف الإلهية بالقبول والطمأنينة ، وتثبيت لملكة المراقبة والخوف من الله ، وتقوية لخلق الحياة ، وفي هذا كل الخير ، وبه تتحقق تقوى الله ، وتستعد النفس للسخاء ، والبذل والتضحية ، إذا دعى الداعي ، وحان وقت الفصل بين شجعان الرجال وجبنائهم ، وبين كرامهم وأنذالهم".
"وليس يخفى أن كل شئ في هذه الحياة ممكن . الفقر بعد الغنى ، والمرض بعد الصحة ، والذلة بعد العز، والنزوح عن الأوطان بعد الطمأنينة فيها، ويغلب الأعداء بعد الغلب عليهم وقهرهم... وما إلى ذلك مما هو بسبيل أن يعرض للإنسان . وعروض هذه الأشياء على نفس مدللة ، وجسم مترف ، ينام بقدر ، ويأكل بقدر ، ويمرح في الملذات بين الأهل والعشيرة ، قد يصدمه صدمة لا يقولى على احتمالها ، أو يسوق إليه الجزع ويورثه اليأس".
" لذلك كله اقتضت حكمه الحكيم العليم ، أن يجعل من العبادات ما يروض الأجسام ويهذب الأخلاق ، ويطهر الأرواح ويزكيها.. وكان من هذه العبادات الصوم".
" وكما عني الإسلام بتزكية الأرواح وتهذيب الأخلاق ، فقد عني بتربية الأجسام ، وحرم كل ما هو ضار بها ، وأباح الطيبات وكل ما هو نافع ومفيد ، ذلك أن الإسلام يريد رجلا عاملا في الحياة ، مهذب الأخلاق ، طاهر الأعراق ، قوياً لا يهاب الموت ، يدفع عن الدين ويدافع عن الوطن ، ويذود عن العشيرة ، ويريد رجلا رحيما حسن المعاشرة ، سلس القياد لأهله، وعشيرته، وبني وطنه، يريد رجلا لا تلهيه الدنيا عن الاتصال بالخالق وأداء حقوقه.. الخ". [278]
***
_ معالجته للمشاكل الاجتماعية:
كذلك نجد الشيخ المراغي – رحمه الله – يعرض لمشاكل المجتمع وأسباب الانحطاط في دول الإسلام ، يعالج كل ذلك بما يفيضه الله على قلبه وعقله ولسانه ، من هداية القرآن وإرشاده.
ولقد كان الأستاذ – رحمه الله – بصيراً بمواطن الداء ، وأسباب الشفاء ، فكان يهدف في دروسه إلى علاجها واستئصالها ، وكان كثيراً ما يوجه الخطاب إلى أرباب الحل والعقد في الدولة – وهم غالبية المستمعين له – ويلفت أنظارهم إلى ما في أعناقهم من أمانات ، وما عليهم من تبعات ، ثم يأخذ بيدهم إلى حيث يكون صلاحهم ، وصلاح من تحت إمرتهم ورعايتهم .. يدفعه في هذا كله إخلاصه لربه ، ولوطنه ، ولأمته..
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (13) من سورة الشورى : } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً {... الآية ، نجده يقول : ".. والحكمة في هذه الشرائع الإلهية : أن الإنسان إذا ترك إلى مداركه الحسية ونظرياته العقلية ، ضل وكره الحياة ، وكان أشقى من أنواع الحيوان ، وشقاؤه يكون من ناحية العقل نفسه ، فقد دلت التجارب على أن العقل غير المؤيد بالشرع الإلهي يذهب مذاهب شتى ، منها الصواب ومنها الضلال ، وهو فيما عدا المحسات المادية ضلاله أكثر من صوابه. وهذه آراء العلماء في الفلسفة والأخلاق ، ويشبه بعضها هذيان المحموم ، وبعضها لا يدرك له محصل على كثرة ما يقولون من مقدمات وبراهين . وهذه مذاهب الاجتماع قديمها وحديثها ، لم تسعد الأمم بها ، فلابد من هداية تصدر عن المعصوم يحملها من عند الله العلي الحكيم . وقد دلت التجارب أيضاً على أن الأمم التي عملت بالهدي كله أو بعضه سعدت بمقدار ذلك الهدي الذي عملت به".
"وأما أنه لولا الدين لما احتمل الإنسان هذه الحياة ، فإنها على قصرها مملوءة بالمصائب والويلات ، فمن فقر مدقع ، إلى مرض مزمن، ومن فقد الأهل والعشيرة ، إلى فقد العزة والجاه ، ومن شرف رفيع ، إلى ذلة ومهانة... واحتمال هذا كله إذا لم يكن أمام الإنسان أمل ينتظره ، وحياة دائمة فيها سعادة دائمة ليس في طاقة الإنسان ، فالاعتقاد بالآخرة يرفه العيش ، ويجعل المؤمن في سعادة نفسية ، ويقويه على احتمال الصعاب ، وعلى الصبر على معاشرة الناس ، فلابد من نظام يعتقد فيه العصمة من الخطأ ، ويهدر معه حكم العقل إذا حصل تعارض بينهما ، فإن دائرة العقل محدودة ، وهي قاصرة عن إدراك خفايا المستقبل".
وإذا قيل : إن التدين مقيد للحرية ، ومانع من التمتع باللذات ، فكيف تكون فيه السلوى والعزاء ؟ فالجواب : أن الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث ، ولم يحظر من اللذات إلا ما يضر الإنسان  ، وليست السعادة في حرية البهائم ، بل في حرية يسبح بها فيما فيه خيره وسعادته ، ويحظر عليه فيها ما فيه ضرره وشقاؤه ، وقوام آداب الأمم وفضائلها ، التي قامت عليها صروح المدنية الحقة مستند إلى الدين ، وبعض العلماء يحاول تحويلها عن أساس الدين ، وبناءها على أساس العقل والعلم ، غير أنه لا شبهة في أن الأمم التي تروم هذا التحول تقع في اضطراب وفوضى لا تعلم عاقبتهما ، وليس من الميسور أن تبني للعامة قواعد الفضيلة على أساس علم الأخلاق ، أو أية قاعدة علمية أخرى ، ولكن من الميسور دائماً أن تبني قواعد الفضيلة على أساس العصمة للدين ، فالذي يحاول العلماء : وهم وخيال". [279]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (185) من سورة البقرة : } شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ {.. نجده بعد أن يشرح الآية ، ويذكر ما في القرآن من هداية يقول : " هذا هو القرآن الذي سعد به المسلمون بحياة روحية هي المثال الأعلى للنفس الانسانية ، وبحياة جثمانية طاهرة بريئة ، وبحياة علمية لا يزال ما بقى من نورها يستمتع به الناس ، وهو موضع للعجب ، ومثار للإكبار والإجلال".
" سعدوا به حقبة ، ثم انحرفوا عنه فعاقبهم الله بما هم فيه من ذل وهوان ، حتى أصبحوا يخافون تخطف الناس لهم، وصاروا في حاجة إلى غيرهم في كل مرافق الحياة ، ووصل بهم الجهل إلى حد أن ظنوا أن كل ما عند غيرهم خير يجلب ، وكل ما عندهم شر ينبذ ، وأنه لا حياة لهم إلا بالقدوة.. القدوة حتى فيما علم غيرهم شره وفساده ، وحاولوا نبذه وطرحه ، وقد أصبح المسلمون مثلا سيئة للإسلام ، يحتج بهم عليه والدين منهم برئ".
" الدين يطلب رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، رجالا باعوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، رجالا خلقاء بأن يكونوا خلفاء عن الله في الأرض ، يعلمون سرها ، ويسخرونه للخير ودفع الأذى ، يدفعون عوادي الزمان بمناكبهم كأنهم بنيان مرصوص ، يعرفون للكرامة قدرها ، وللعزة موضعها ، ويميزون بين الأعداء والأصدقاء ، ويعلمون أن متاع الحياة الدنيا قليل ، وأن الآخرة خير وأبقى".[280]
وعندما تعرض لقوله تعالى في الآية (25) من سورة الحديد : } َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ {.. الآية.
وجدناه يقول بعد ما شرح الآية : " ذكر الله – سبحانه – الكتاب والميزان والحديد وقرنها بعضها ببعض ، فالكتاب : إشارة إلى الأحكام المتقضية العدل والإنصاف . والميزان : إشارة إلى سلوك الناس على وفق هذه الأحكام . والحديد : إشارة إلى ما يحملهم على اتباع هذه الأحكام إذا تمردوا ، والله سبحانه – وهو العليم الحكيم – لا يضع للخلق من القوانين إلا ما فيه مصلحتهم ، وخيار الخلق تكفيهم تلاوة الكتاب وعلمه لاتباع ما فيه ، وغيرهم لابد له من وازع ، وهو سلطان الحاكم المشار إليه بالحديد ، ولذلك وجدت التعاذير في الإسلام ، ووجدت الحدود . أما ترك الناس أحراراً من غير وازع . فهو ضار بالمجتمع الإنساني ، وموجب للتراخي في إقامة العدل واتباع القانون، جرب هذا في العصور المختلفة، وقامت الشواهد الناطقة في العصر الحديث عليه . علم ان الأمم التي لم تحط أخلاقها بوازع ، انحدرت إلى الدرك الأسفل وأضلتها الشهوات وقد كانت درة عمر سلكا قويا للنظام الإسلامي فلما رفعت ضعف ذلك الرباط". [281]
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة لقمان : } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ {.. الآية ، نجده يقول "... من الناس فريق مؤمن بالقرآن إجمالا وبرسالة محمد ، ويعظمهما ويجلهما فإذا قلت له : لم لا تقطع يد السارق ؟ وتحد القاذف ؟ ولم لا تحكم القرآن في الحياة ونحن مؤمنون به ؟ هز كتفيه وابتسم ، أو زاد : إنها رجعية لا يحتملها تمدين العصر الحديث !!.. أليس هذا استهزاءاً بالآيات ؟ واشتراءاً للباطل ؟ وضلالا عن سبيل الله "؟
"هناك مقلدون للمذاهب في العقائد والأحكام ، إذا عرضت عليهم الآيات الدالة على فاسد مذاهبهم ، ولوا عنها وإن كانوا لا يسخرون بها، بل يسخرون بمن يعرضها ، أليس هذا شراء للباطل وبيعاً للحق بغير علم "؟.
" هناك مذاهب ابتدعت في الدين للضلال والإضلال بسبب السياسة ، وفسر مبتدعوها الآيات في التأويل ليردوها إلى مذاهبهم المبتدعة وجاء أتباعهم فقلدوهم".
" أما المبتدعون فأمرهم واضح .. اشتروا الضلالة بالهدى" ! ..
"وأما الأتباع فكان عليهم أن ينظروا في الآيات ويتدبروها عملاً بقوله سبحانه: } فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً { .. [282] فهم أيضاً اشتروا الضلالة بالهدى ولهم بعض العذر". [283]
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (6) من سورة الحجرات : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ { .. الآية ، نجده يقول: " ... وللتثبت في الأخبار فضيلة ليست كثيرة عند الناس ، وأكثر الناس يقعون في تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون ، ولبعض مهرة الكاذبين حيل تخفى على أشد الناس تثبتا من الأخبار".
وكثيراً ما يقع عدم التثبت من العظماء الذين يملكون النفع والضرر يجيئهم ذلك : من ناحية استبعاد أن يكذب بطانتهم عليهم وهو مدخل للخطر عظيم".
" والذين هم في أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية هم الذين بيدهم مقاليد الأمور؟ وبيدهم الضر والنفع . أما الذين لا يملكون ضراً ولا نفعاً فحاجتهم إليها أقل من حاجة هؤلاء".
"والآية على العموم : أدب عظيم لابد منه لتكميل النفس ، وإعدادها لتعرف الحق والبعد عن مواطن الباطل ". [284]
***
_ توفيقه بين القرآن والعلم الحديث:
هذا .. وإن الأستاذ المراغي – رحمه الله – كان مع اعتقاده أن القرآن قدى أتى بأصول عامة ، لكل ما يهم الإنسان معرفته والعلم به ، يكره أن يسلك المفسر للقرآن مسلك من يجر الآية القرآنية إلى العلوم ، أو العلوم إلى الآية ، كي يفسرها تفسيراً علمياً يتفق مع نظريات العلم الحديث .
نعم.. كره الشيخ هذا المسلك في التفسير ، وجهر بخطأ أصحابه المولعين به ، وكرر هذا في مواضع كثيرة ، فكان مما قاله في بعض المواضع من دروسه في التفسير : "وجد الخلاف بين المسلمين في العقائد والأحكام الفقهية . ووجد عندهم مرض آخر هو الغرور بالفلسفة وتأويل القرآن ليرجع إليها ، وتأويله لبعض النظريات العلمية التي لم يقر قرارها ، وذلك خطر عظيم على الكتاب ، فإن للفلاسفة أوهاماً لا تزيد على هذيان المصاب بالحمى ، والنظريات التي لم تستقر لا يصح أن يرد إليها كتاب الله". [285]
ولكن الأستاذ المراغي مع هذا كله كان يرى أن يكون مفسر كتاب الله على شئ من العلم ببعض نظريات العلم الحديث ، ليستطيع أن يأخذ منها دليلا على قدرة الله ، ويستلهم منها مكان العبرة والعظة.
كان الشيخ يرى هذا ، ويعتقد أنه هو المسلك السليم لفهم القرآن الكريم ، فجهر به في أحد دروسه في التفسير فقال : " ليس من غرض مفسر كتاب الله أن يشرح عالم السموات ، ومادته وأبعاده ، وأقداره ، وأوزانه؟ لكنه يجب أن يلم بطرف يسير منه ، ليدل به على القدرة الإلهية ويشير إليه للعظة والاعتبار". [286]
ثم وجدنا الأستاذ المراغي بعد هذا يشرح قوله تعالى في الآية (10) من سورة لقمان : } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ { شرحاً يقوم على هذا المبدأ الذي ارتضاه فقال : " خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا " .. السموات مجموع ما نراه في الفضاء فوقنا من سيارات ، ونجوم وسدائم وهي مرتبة بعضها فوق بعض تطوف دائرة في الفضاء ، كل شئ منها في مكانه المقدر له بالناموس الإلهي ونظام الجاذبية ، ولا يمكن أن يكون لها عمد والله هو ممسكها ومجريها إلى الأجل المقدر لها فإذا قيل : إن نظام الجاذبية وهو الناموس الإلهي قائم مقام العمد ويطلق عليه اسم العمد جاز أن نقول : إن لها عمداً غير منظورة وإذا لاحظنا أنه لا يوجد شئ مادي تعتمد عليه ، وجب أن نقول : إنه لا عمد لها ، وأقدار الأجرام السماوية وأوزانها أقدار وأوزان لا عهد لأهل الأرض بها والأرض نفسها إذا قيست بهذه الأجرام ليست إلا هباءة دقيقة في الفضاء.. ثم قال : قرر الكتاب الكريم أن الأرض كانت جزءاً من السموات وانفصلت عنها وقرر الكتاب الكريم أن الله } ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ {..[287]} وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى { .[288] . فهذا النجم قدرته على إشعاع الضوء تساوي قوة الشمس (26) مرة ، وقدرته على إشعاع الحرارة مثل قدرته على إشعاع الضوء ، فلو فرض أن الشعرى اليمانية حلت محل الشمس يوما من الأيام ، لانتهت الحياة فجأة ، بغليان الأنهار ، والمحيطات والقارات الجليدية ،التي حول القطبين ، وضوء الشعري اليمانية يصل إلينا بعد ثمان سنوات ، وضوء الشمس يصل إلينا بعد ثمان دقائق ، فانظر إلى هذا البعد السحيق". وهذا الذي قرره الكتاب الكريم هو الذي دل عليه العلم وقد قال العلماء : إن حادثا كونيا جذب قطعة من الشمس وفصلها عنها وإن هذه القطعة بعد أن مرت عليها أطوار تكسرت وصارت قطعا كل قطعة منها صارت سياراً من السيارات وهذه السيارات طافت حول الشمس وبقيت في قبضة جذبتها والأرض واحدة من هذه السيارات فهي بنت الشمس ، والشمس هي المركز لكل هذه السيارات ... فليست الأرض هي مركز العالم كما ظنه الأقدمون ، بل الشمس هي مركز هذه المجموعة والشمس وتوابعها قوى صغيرة في العالم السماوي ، وأين هي من الشعري اليمانية التي قال الله سبحانه فيها
" وليست الشعرى اليمانية أكبر نجم في السماء ، فهناك بعض النجوم قدرتها تزيد على قدرة الشعري أكثر من عشرة آلاف مرة ".
"وعظمة السماء ليست في الشمس وتوابعها ، كلا.. إن عظمتها في مدنها النجومية ، في أقدارها ، وأوزانها ، وأضوائها ، وأبعادها ، على اختلاف أنواعها".
" وهناك نجم يسمى الميرة أكبر من شمسنا بما يزيد عن ثلاثين مليوناً من المرات ، وهناك السدائم ، وهي قريبة من الخلق أول الأمر، ثم يقف علم الإنسان ، والله تعالى وحده الذي يعلم خلقه : } مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ "..[289]
} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ { .. أي خلق الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض وتضطرب ، ولبيان هذا يمكن أن نقول باختصار : إن الأرض بعد انفصالها عن الشمس ، وعكوفها على الدوران حولها على بعد منها ، وصلت بعض موادها إلى حالة السيولة بعد أن كانت مواد ملتهبة كالشمس ، وتكونت عليها قشرة صلبة بعد تتابع انخفاض الحراية أحاطت بما في جوفها من المواد المنصهرة ، ثم تتابعت البرودة على القشرة فتجعدت ، وحدث من التجعد نتوءات وأغوار ، فالجبال الأولى نتوء القشرة الصلبة التي غلفت الأرض، وهناك جبال جدت عن اشتداد الضغط في الرواسب التي في قاع البحر ، وجبار نارية جدت من خروج الحمم النارية من وسط الأرض وتداخلها في الطبقات . حتى صارت كأوتاد مغروزة فيها".
"والجبال كلها تتحمل الضغوط الرسوبية على جدرانها ، وتوزعها ، وتغير اتجاهها ، وتكسر حدتها ، وتساعد بذلك على بقاء الطبقة المفككة الصالحة للإنبات ، والتي يتغذى بواسطتها الحيوان والإنسان ، وتحفظها من أن تمور".
" فالجبال أولا حبست النار في جوف الأرض ، وصيرت الأرض بعد ذلك صالحة للحياة ، والجبال توزع ضغوط الطبقات ، ثم بعد ذلك تكسر حدة العواصف والرياح ، فهي حافظة للأرض من الميدان الذي يجئ بأسباب من داخل الأرض، والذي يجئ بسبب العواصف والرياح ".. وهكذا مشى الشيخ إلى آخر الآية . [290]
***
_ حرية الرأي في تفسيره:
ثم إن الشيخ المراغي - رحمه الله – كان كغيره من رجال هذه المدرسة لا يتقيد بأقوال الأئمة ، ولا يقف عند مذهب مخصوص ، ولا يقول براي معين إلا إذا اقتنع به ، وإلا فلا عليه أن يتركه إلى ما هو صواب في نظره.
فمثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (184) من سورة البقرة : } فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ {.. نجده يقول بعد أن يذكر خلاف علماء الفقه في السفر المبيح للفطر : "وقد روى أحمد ومسلم وأبو داوود عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة مسيرة ثلاثة أميال . وروى عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يقصر في الميل الواحد ، وإذا نظرنا إلى أن نص القرأن مطلق ، وأن كل ما رواه في التخصيص أخبار آحاد ، وأنهم لم يتفقوا في التخصيص ، جاز لنا أن نقول : إن السفر مطلقاً مبيح للفطر ، وهذا رأي أبي داوود وغيره من الأئمة". [291]
ومثلا عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (27) من سورة لقمان : } وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ { ... الآية ، نجده بعد أن يبين أن عدد السبعة في الآية مراد به الكثرة يقول : "وعلى هذا يمكن أن يقال في أبواب النار ، أما الأبواب الثمانية للجنة ، فقد أريد بالزيادة فيها على النار أن يدل على أن مسالكها أكثر من مسالك النار ، لراحة أهلها ، وزيادة العناية بهم".
"وكذلك يقال في السموات السبع ، والأرضين السبع ، والعرب تذكر السبعة للكثرة ، وتذكر السبعين للكثرة كذلك ، ومنه } اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ {. [292]} ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ { . [293]. يراد في سلسلة طويلة هائلة ، ولا يراد التقدير بهذا العدد "  [294]. والواقع أن هناك فرقا بين ما ورد من نحو قوله : استغفر لهم الخ وقوله : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً ، وبين ما ورد في عدة أبواب الجنة والنار ، وعدة السموات والأرض ، فإن الأول ذكر في مقام التهويل ، فلا يراد التحديد وإنما يراد الكثرة ، بخلاف الثاني فإنه ليس كذلك.. ومن المعلوم أن الله لا يغفر لهم في السبعين ، ولا في السبعة الآلاف ، ونظيره
ومثلا نجد الأستاذ المراغي في دروسه الأخيرة عندما تعرض لقوله تعالى في الآية (5) من سورة الملك } وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ {.. الآية ، يشرح كون النجوم رجوما للشياطين بما معناه : " أن ما في السماء من النجوم دلائل قاطعة على تمام قدرة الله تعالى ، فالله سبحانه وتعالى زين السماء الدنيا بهذه الكواكب ، وجعلها على هيئة مخصوصة ونظام محكم ، لتكون حججاً دامغة ، وأدلة قوية على من يجحدون قدرة الله وينكرون وجوده " . سمعناه يقول ما هذا معناه ، ثم يستدل على ما ذهب إليه بأنهم يقولون : "ألقمته حجراً " يعني أقمت عليه الحجة فلم يحر جواباً ، ثم يستشعر الشيخ بعد ذلك أن في القرآن آيات كثيرة تصادم هذا الفهم ، كقوله تعالى في الآيات (6-10) من سورة الصافات } إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ{6} وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ{7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ{8} دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ{9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ { .. وكقوله في الآيتين (8، 9) من سورة الجن } وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً{8} وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً { يستشعر الشيخ مصادمة هذه الآيات لرأيه فيقول ما معناه : " وهناك آيات أخرى في هذا المقام ، تبدو مخالفة لهذا المعنى ، ولكن يمكن حملها عليه ، وليس في الوقت متسع لذلك ، وسنعرض لها في موضع غير هذا".
ولست أدري كيف كان يستطيع الشيخ – رحمه الله – أن يحمل كل الآيات الواردة في هذا الموضوع على المعنى الذي قاله حملا صحيحاً ، وهي كما ترى صريحة في أن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء ويسترقون السمع ، ثم منعوا من ذلك عند رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن حاول منهم استراق السمع – كما كانوا يفعلون من قبل – رمي بشهاب من السماء فحال بينه وبين ما يريد .
وخاتمة المطاف في هذه الدروس التي ألقاها الأستاذ الأكبر في التفسير : أنه كان منها – كما قيل – أمران عظيمان لهما خطرهما في الحياة الدينية : كانت عاملا قوياً في توجيه المسلمين ونشئهم الطيب الطاهر إلى الجانب الديني ، ولفت أنظارهم إلى ما في كتاب الله من تشريع حكيم ، وأدب جم كريم ، وإرشاد قيم مفيد ، فحببت إليهم الدين ، وزينته في قلوبهم ، وهرعوا إليه يتعرفون حكمه وأحكامه ، ويتلمسون بها حياة طيبة ونهضة قوية ، أساسها الدين والخلق الكريم.
وكانت هذه الدروس أيضاً : منار هدى وإرشاد ، يلقى أشعته الوضاءة على عقول المشتغلين بتفسير القرآن ، فيضئ لهم الطريق الذي ينبغي أن يسلكوه في فهم كتاب الله ، واستخلاص آدابه وأحكامه ، خالصة مما جاورها من إسرائيليات وتأويلات أبعدت أهل الدين عن الدين ، وشغلتهم في تفسير القرآن بما لا يمت إلى روحه ومعناه ، وكذلك صورت الدين لغير أهله الذين يتحسسون له عيباً صورة لا تتفق وما له من جلال وجمال . [295]
هذا .. وإنا لنرجو للشيخ المراغي عند ربه ما كان يرجوه هو لنفسه من وراء مجهوده في التفسير وهو :
أن يضعه الله سبحانه في كفة الحسنات من ميزان أعماله ، وأن يجعله ضياء ونوراً يسعى بين يديه } يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم {..[296]
[1] أي العلماء الأربعة .
[2] انظر الغرق بين الغرق ص 266 والتبصير في الدين ص 83 .
[3] الأحزاب : 7
[4] النحل : 91
[5] راجع المواقف ج 8 ص 389 ، والفرق بين الفرق ص 282 وما بعدها .
[6] فضائح الباطنية ص 6
[7] الفرق بين الفرق ص 180 ، وبمثل وهذه العبارة يستدل أبو منصور البغدادي على أنهم دهريون .
[8] المواقف ج 8 ص 388 .
[9] المواقف ج 8 ص 390 .
[10] فضائح الباطنية للغزالي ص 12 .
[11] فضائح الباطنية ص 13 .
[12] الفرق بين الفرق ص 279 .
[13] الأسراء : 85 .
[14] الشعراء : 29 .
[15] النازعات : 24 .
[16] الشورى : 23 .
[17] الفرق بين الدين ص 87 .
[18] التبصير في الدين من 87 .
[19] التوبة : 128 .
[20] التبصير في الدين ص 87 – 88 .
[21] قريش : 3 .
[22] طه : 12 .
[23] الفرق بين لبفرق ص 288 .
[24] لما قامت الثورة المصرية سنة 1952 طردت جماعة البكدآشية من مصر وذلك لما ظهر من فساد حالهم وسوء فعالهم .
[25] ومن محاسن ثورة 23 يوليو سنة 52 ، طرد البهائيين من مصر ، والاستيلاء على مركزهم العام ، وتحويله إلى جمعية المحافظة على القرآن الكريم ، وقد تم ذلك في حفل عام سنة 1961 م .
[26] البابية والبهائية في واقع الأمر طائفة واحدة ، نسبت إلى الباب زعيمها الأول فقيل لها بابية ، ثم نسبت إلى البهاء زعيمها الثاني ، فقيل لها بهائية كما هو موضح بعد .
[27] وقع بين أتباع البهاء وأتباع أخيه الملقب بصبح ازل – وكان ممن رفض دعوى أخيه . وأتباعه يعرفون بالأزليه – فتنة في أدرنة ، فأمرت الحكومة العثمانية بابعاد الفريقين من أدرنة فنفت البهاء وأتباعه إلى عكا ، ونفت يحيى واتباعه إلى قبرص .
[28] لخصنا هذا البحث التاريخي من مقال لأبي الفضائل الايراني منشور بمجلة المقتطف الجزء التاسع ، السنة العشرين . ومن مقال السيد محمد الخضر حسين منشور بمجلة نور الإسلام – مجلة الأزهر فيما بعد – العدد الخامس من السنة الأولى .
[29] رسائل الإصلاح ج 3 ص 89
[30] روح المعاني ج 32 ص 29 .
[31] الكتاب ص 7 .
[32] المرجع السابق ص 9 .
[33] المرجع السابق ص 35 .
[34] رسائل الإصلاح ج 3 ص 99 .
[35] كتابة بهاء الدين ص 39 .
[36] رسائل الاصلاح ج 3 ص 99
[37] انظر مقال أبي الفضائل في المقتطف العدد التاسع من السنة العشرين ، وانظر المحاضرة التي القاها عبد العزيز نصحي عن الباهئيين بدار جمعية الهداية الإسلامية . 
[38] رسائل الاصلاح ج3 ص 100 .
[39] الكتاب ص 33 .
[40] رسائل الاصلاح ج3 ص 100 .
[41] المرجع نفسه .
[42] الكتاب ص 83 .
[43] رسائل أبي القضائل ص 126 – 127 .
[44] الحديد : 13 – 15 .
[45] رسائل أبي الفضائل ص 138 – 139 .
[46] رسائل أبي الفضائل ص66 .
[47] البرسام بكسر الباء : علة يصحبها هديان .
[48] مفتاح باب الأبواب ص 312 .
[49] الكتاب ص 83 .
[50] رسائل الإصلاح ج3 ص 103 .
[51] كتاب بهاء الله ص 97 .
[52] مقدمة ابن خلدون ص 522 .
[53] دائرة المعارف للبستاني المجلد السادس ص 133 .
[54] دروس في تاريخ الفلسفة للدكتور مدكور ، ويوسف كرم ص 140 .
[55] كشف الظنون ج1 ص 150 .
[56] محمد : 35 .
[57] الفصوص ج1 ص 26 .
[58] تفسير ابن عربي ج1 ص 51 .
[59] تفسير ابن عربي ج2 ص 280 .
[60] الفصوص ج1 ص 50 .
[61] الفصوص ج1 ص 191 - 193 .
[62] تفسير ابن عربي ج 1 ص 141 . 
[63] الفتوحات ج4 ص 119 .
[64] الأنبياء : 47 .
[65] الفتوحات ج3 ص6 .
[66] الفتوحات ج4 ص 115 .
[67] انظر الموافقات ج 3 ص 382 – 383 .
[68] البخاري باب التفسير ج 6 ص 179 .
[69] تفسير الألوسي ج6 ص 60 .
[70] الانعام : 38 .
[71] الموافقات ج3 ص 394 .
[72] تفسير القرآن العظيم للتستري ص 14 .
[73] الأحقاف : 20 .
[74] تفسير القرآن العظيم للتستري ص 16 – 17 .
[75] الإتقان ج 2 ص 184 .
[76] الإتقان ج 2 ص 184 .
[77] مبادئ التفسير للخضري ص9 .
[78] فصلت : 40
[79] تفسير الآلوسي ج 24 ص 112 .
[80] تستر بضم التاء الولى ، وسكون السين المهملة ، وفتح التاء الثانية : بلد من الاهواز .
[81] انظر وقيات الاعيان ج1 ص 389 .
[82] صفحة 3 .
[83] صفحة 7 ولملك تجد في هذه العبارة ما يؤكد ما قلناه من أن الكتاب من وضع أحد تلاميذه : أبو بكر محمد بن أحمد البلدي .
[84] صفحة 60 .
[85] صفحة 106 .
[86] صفحة 120 .
[87] رجعنا في هذه الترجمة إلى طبقات المفسرين للسيوطي ص 31 ، وإلى طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص 60 – 62 .
[88] صفحة 1 ، 2 .
[89] طبقات المفسرين ص 31 .
[90] طبقات الشافعية للسبكي ج3 ص 61 .
[91] المرجع السابق .
[92] منهاج السنة ج4 ص155 .
[93] صفحة 1 .
[94] صفحة 49 .
[95] صفحة 138 .
[96] صفحة 212 .
[97] صفحة 344 .
[98] صفحة 385 .
[99] صفحة 22 .
[100] صفحة 23 .
[101] الأنعام : 59 .
[102] فصلت : 11 .
[103] يس : 23 : 40 .
[104] الإنبياء : 30 .
[105] الرعد : 41 .
[106] القمر : 1 .
[107] الطلاق : 12 .
[108] النحل : 15 ، لقمان : 10 .
[109] الرعد : 8 .
[110] الأنبياء : 30 .
[111] المؤمنون : 12 .
[112] يس : 36 .
[113] طه : 53 .
[114] الحج : 5 .
[115] الرعد : 3 .
[116] الفرقان : 45 .
[117] يس : 42 .
[118] الفيل : 3 .
[119] الفيل : 4 .
[120] صفحة 23 – 25 .
[121] صفحة : 108 .
[122] غافر :15 .
[123] صفحات 113 ، 114 ( هامش ) مطبعة الاستقامة سنة 1359 هـ .
[124] وهنا نرى المؤلف يغلق على قوله هذا يذكر بعض ما نقلناه عن طبائع الاستبداد للكواكبي من استخراج بعض العلوم من القرآن الكريم .
[125] فصلت : 53 .
[126] صفحات 124 – 126 .
[127] صفحة 1 .
[128] صفحة 1 .
[129] صفففحة 121 .
[130] صفحات 13- 15 .
[131] ولد سنة 1287 هـ ( 1870م ) وتوفى سنة هـ ( 1940 م ) . عن كتاب الإعلام للزركلي ج3 ص333 ، 334 ط ثانية أ هـ . وفي كتاب الإعلام الشرقية للأستاذ " زكي مجاهد " ج2 ص 116 ، 117 ط القاهرة : أنة توفي في سنة 1359 هـ ( 1939 ) وفيه نظر .   
[132] رجعنا في هذا إلى مقدمة الكتاب وخاتمته وجمعناه ملخصا .
[133] الجواهر ج3 ص19 .
[134] القيامة : 19 .
[135] الجواهر ج25 ص 40 .
[136] الجواهر ج 25 ص 53 .
[137] الجواهر ج1 ص 66 ، 67 .
[138] الجواهر ج2 ص 10 ، 11 .
[139] الأسراء : 14 .
[140] القيامة : 14 .
[141] الجواهر ج 3 ص9 .
[142] الجواهر ج10 ص 64 ، 65 .
[143] أول سورة النحل .
[144] الجواهر ج10 ص 199 .
[145] الجواهر ج 24 ص 17 .
[146] الجواهر جح 24 ص27 .
[147] الجواهر ج 25 ص 249 – 251 .
[148] الجواهر ج25 ص 269- 273 .
[149] الأنعام : 38
[150] تفسير المنار ج1 ص 7 .
[151] الإسلاموالطب الحديث ص ( د ) .
[152] المرجع نفسه ص3 .
[153] انظر مجلة الإيمان العدد الثاني من السنة الثانية سنة 1354هـ .
[154] الحج : 52
[155] النحل : 127 .
[156] الكهف :6
[157] م: 53
[158] طه : 43 ، 44 .
[159] آل عمران : 159 . 
[160] الشعراء : 215 .
[161] مجلة الإيمان العدد الثالث من السنة الثانية سنة 1354 هـ .
[162] صاحب الرد المفحم هو أستاذنا العلامة الشيخ السيد محمد الخضر حسين ، وقد نشره في مجلة الهداية الإسلامية .. العدد العاشر والثاني عشر من المجلد السابع ، والعدد الثاني والثالث والرابع من المجلد الثامن .
[163] هذا المقال المشار إليه يوجد بالعدد الخامس من السنة السادسة ( سنة 1973 م)
[164] المائدة : 38 : 39 .
[165] النور : 2 .
[166] الأعراف : 31
[167] السياسة الأسبوعية ص 6 من العدد السادس من السنة السادسة ( فبراير سنة 1937 م ) .
[168] خير من رد عليه أستاذنا السيد محمد الخضر حسين في مجلة الهداية الإسلامية العدد السابع من المجلد التاسع 0 مارس سنة 1973 م ) .
[169] مجلة الإيمان السنة الخامسة العدد 21 ص 11 .
[170] مجلة الإيمان السنة الخامسة العدد 24 .
[171] الرعد : 17 .
[172] صفحة ( ب ) .
[173] صفحة ( ج ) ، ( د ) .
[174] صفحة 281 .
[175] الحشر : 7 .
[176] صفحة 161 .
[177] صفحة 290
[178]صفحة 290 .
[179] صفحة 297 .
[180] صفحة 206
[181] صفحة 45
[182] صفحة 97
[183] صفحة 44
[184] صفحة 239
[185] صفحة 239
[186] صفحة 131
[187] صفحة 290
[188] صفحة 126
[189] صفحة 126
[190] صفحة 256
[191] صفحة 257
[192] صفحة 257
[193] صفحة 297
[194] صفحة 297
[195] صفحة 297
[196] ص 289، 299
[197] صفحة 219
[198] صفحة 7
[199] صفحة 105
[200] صفحة 209
[201] صفحة 297
[202] صفحة 256
[203] صفحة 359
[204] صفحة 88
[205] صفحة 274
[206] صفحة 61
[207] المرجع السابق
[208] صفحة 455
[209] صفحة 267
[210] صفحة 455
[211] صفحة 37
[212] البقرة : 278
[213] البقرة : 279
[214] البقرة : 280
[215] البقرة : 275
[216] صفحة 38
[217] صفحة 53
[218] صفحة 113
[219] صفحة 150
[220] صفحة 455
[221] العدد الثالث والرابع من المجلد الثاني من مجلة نور الإسلام ( الأزهر سنة 1350 هـ ) .
[222] ص 140- 160
[223] انظر مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث ص 14- 35 .
[224] ولد في سنة 1282هـ وتوفى في سنة 1354هـ .
[225] اختصرنا هذا الموضوع من مقدمته تفسير المنار ج1 ص 10- 15 .
[226] ج2 ص 498 .
[227] المحدث بهذا هو الأستاذ عبدالرحمن عاصم من مقال كتبه عن حياة الشيخ رشيد بالعدد 12 من السنة الخامسة من مجلة نور الإسلام .
[228] انظر تفسير المنار ج6 ص 196 .
[229] من قال نشره الأستاذ عبد الرحمن عاصم عن الشيخ رشيد في مجلة نور الإسلام السنة الخامسة العدد 12 سنة 1354 هـ .
[230] تفسير المنار ج1 ص 17
[231] تفسير المنار ج1 ص10
[232] تفسيرالمنار ج4 ص42
[233] تفسير المنار ج1 ص46
[234] كان الشيخ رشيد ينشر ما يكتبه في التفسير تباعاً بمجلته " المنار " ثم جمع ما كتب في كتاب واحد وهو تفسيره المتداول بين أهل العلم .
[235] تفسير المنار ج3 ص 98 – 99 . وراجع أيضا ما كتبه عن قتل العمد ج5 ص 339 – 345 .
[236] النازعات : 5
[237] تفسير المنار 332 .
[238] تفسير المنار 145 ، 146 .
[239] تفسير الم ص311 .
[240] انظر تفسير سورة الفلق من مجموعة تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ص 129-134 . 
[241] تفسير سورة الناس من مجموعة تفسير الفاتحة وست سور من خواتيم القرآن ص 141 .
[242] انظر تفسير المنار ج7 ص 516 .
[243] المرجع السابق ( هامش )
[244] تفسير المنار ص96 .
[245] تفسير المنار ج11 ص333 وانظر الوحي المحمدي للمؤلف ص 69 ، 70 مطبعة المنار سنة 1345 هـ .
[246] انظر القول الفصل ص 163 .
[247] نيل الاوطار للشوكاني ج6 ص 40 المطبعة العثمانية سنة 1375 هـ .
[248] تفسير المنار ج1 ص 141
[249] تفسير المنار ج5 ص 118- 122
[250] انظر ما عقببه على الزمخشري وغيره من المفسرين الذين فسروا الركون : بالميل اليسير في قوله تعالى في الأية ( 113 ) من سورة هود " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " . الأية ج12 ص 169 – 179 .
[251] انظر ما نقله عن الفصل الخامس والعشرين من سفر الخروج عن التابوت وما حواه ج2 ص482 واستشهاده على ما فسر به استجابة الله لدعاء موسى وهارون حيث قالا كما جاء في الآيتين ( 88 ، 89 ) من سورة يونس : " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ{88} قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا " الأية ، بما جاء في مسفر الخروج ج11 ص 474 .
[252] ولد في سنة 1881 م وتوفى في سنة 1945 .
[253] ألقى بمسجد البوصيري بالأسكندرية في رمضان سنة 1356هـ .
[254] ألقى هذا الدر الحسين بالقاهرة في رمضان سنة 1356هـ .
[255] ألقى هذا الدرس بمسجدي السلطان أبي العلاء بالقاهرة في رمضان سنة 1356هـ .
[256]  هذا الدرس بمسجد السلطان الحنفي بالقاهرة في رمضان سنة 1356هـ .
[257] ألقى هذا الدرس بمسجد السيدة زينب بالقاهرة في رمضان سنة 1356هـ .
[258] ألقى هذا الدرس بمسجد البوصيري بالأسكندرية به في رمضان سنة 1356هـ .
[259] في دروس ثلاثة في شهر رمضان سنة 1358 هـ .
[260] ألقى تفسير هذه السورة في رمضان سنة 1359 ، 1360 هـ .
[261] ألقى تفسير هذه السورة في رمضان سنة 1359 ، 1360 هـ .
[262] ألقى تفسيرها في رمضان سنة 1361 هـ .
[263] ألقى تفسيرها في رمضان سنة 1361 هـ .
[264] ألقى هذا التفسير في رمضان سنة 1361 هـ .
[265] ألقى هذا التفسير في رمضان سنة 1362 هـ .
[266] ألقى هذا الدرس في رمضان سنة 1363هـ .
[267] ألألقى هذا الدرس في رمضان سنة 1363هـ .
[268] ألقى هذا الدرس في رمضان سنة 1363 هـ
[269] ألقاء بدار جمعية الشبان المسلمين سنة 1360هـ .
[270] ألقاه بدار جمعية الشبان المسلمين سنة 1359هـ .
[271] ألقاه بدار جمعية الشبان المسلمين سنة 1361 هـ .
[272] وهو آخر دروسه في التفسير رحمه الله ، أذ توفى في رمضان سنة 1364 هـ ولم يقع لنا تفسير هذه السورة ، وقد اعتمدت فيما نقلته عنه فيها على ما سمعته بنفسي من دروسه في تفسيرها .
[273] مقدمة تفسيره لسورة الحديد .
[274] الزمر : 68
[275] ص 21 من الدروس الدينية لسنة 1356 هـ مطبعة وزارة الإوقاف سنة 1938 .
[276] الدروس الدينية لسنة 1357هـ : ص 6 مطبعة الأزهر سنة 1939 م .
[277] تفسير سورة لقمان ص 18 مطبعة الأزهر سنة 1942 م .
[278] الدروس الدينية لسنة 1975 هـ : ص 6 ، 7 .
[279] الدروس الدينية لسنة 1365 هـ : ص 34-36 .
[280] الدروس الدينية السنة 1457 هـ : ص 15 ، 16 .
[281] تفسير سورة الحديد ص 42 ، 43 .
[282] النساء : 59
[283] تفسير سورة لقمان ص 9 ، 10 .
[284] تفسير سورة الحجرات ص 11 .
[285] الدروس الدينية لسنة 1356 هـ : ص 42
[286] تفسير سورة لقمان ص 12 ، 14 .
[287] فصلت :11
[288] النجم : 49
[289] الكهف : 51
[290] تفسير سورة لقمان ص 13- 15 .
[291] الدروس الدينية نسبة 1357 هـ : ص11 .
[292] التوبة : 80
[293] الحاقة : 32
[294] تفسير سورة لقمان ص 36
[295] مقدمة الشيخ شلتوت لتفسير سورة الحجرات للشيخ المراغي .
[296] الحديد : 12
 

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - إدارة الدراسات الإسلامية